إعلانات

"الحياة بعد غوانتانامو".. رحلة الموريتاني محمدو ولد صلاحي للبحث عن جلّاديه

ثلاثاء, 23/11/2021 - 04:53

قيس قاسم

قصة السجين الموريتاني محمدو ولد صلاحي الذي أمضى أكثر من 14 سنة في معتقل غوانتانامو تعرض خلالها لأبشع وأقسى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، وبإشراف مباشر من وزير الدفاع السابق "دونالد رامسفيلد"؛ تحولت في وقت واحد تقريبا إلى فيلمين، الأول روائي بريطاني أمريكي مشترك عنوانه "الموريتاني" (The Mauritanian)، وقد أنتج عام 2021، واقتُبست قصته من مذكراته الشخصية التي نشرها تحت عنوان "يوميات غوانتانامو"، وقام بإخراجه "كيفن مكدونالد"، ولعب دور البطولة فيه الممثل الفرنسي من أصول جزائرية طاهر رحيم، وإلى جانبه  الممثلة الأمريكية الشهيرة "جودي فوستر".

 

أما الفيلم الثاني فهو وثائقي ألماني بعنوان "صلاحي وجلّاديه: الحياة بعد غوانتانامو" (Slahi und Folterer- Das Leben nach Guantanamo)، وهو من إخراج الأمريكي "جون غويتز" ومساعده "بين هوبكينز"، ويرتكن في نصه على عملية بحث عن جلاديه ومعذبيه خلال التحقيقات كُلفا بها من قبل صلاحي، الذي أراد من خلالها التعرف عليهم وجها لوجه، ودعوتهم لشرب كأس من الشاي معه.

"واحد من أخطر الإرهابيين في العالم".. استقبال حارّ في مطار نواكشوط

في مفتتح الوثائقي الاستقصائي يظهر صلاحي بعد عدة سنوات من إطلاق سراحه وتبرئته من تهم الإرهاب والتورط في أحداث 11 سبتمبر في مطار نواكشوط، وهو يستقبل ضيفه الصحفي والمخرج "غويتز" بالترحاب والعناق، وكأنهما صديقان قديمان، مع أنهما لم يلتقيا من قبل وجها لوجه.

العلاقة بينهما ظلت بعيدة بسبب وجود الموريتاني في السجن وبقائه خلال تلك السنوات مُغيّبا وتحت حراسة مشددة، لأنه حسب التوصيف الرسمي الأمريكي له "واحد من أخطر الإرهابيين في العالم".

لقاء حار في مطار نواكشوط يجمع الموريتاني محمدو ولد صلاحي بضيفه الصحفي والمخرج "غويتز" التي تابع قضيته خلال فترة السجن

 

كان المخرج الأمريكي مُهتما بتتبع مسار قضيته، ومن هنا جاء اهتمامه لإكمالها بعد أن عاد صلاحي إلى وطنه، واستُقبل فيه استقبال الأبطال. العلاقة نشأت بعد مقال كتبه الصحفي عن حياته ونشأته في موريتانيا ودراسته في ألمانيا، وخُلاصة وجوده في غوانتانامو من دون محاكمة تمثل له وقفة رجل وحيد أعزل ضد كل المؤسسات الأمريكية.

دعوة الجلادين.. أشباح وسط حقول ملغومة بالسرية

عندما قرأ "محمدو" المقال في السجن تأثر كثيرا به، وأجهش بالبكاء كما أبلغ سجانيه، لكن دعوته إلى بيته ليس لها علاقة مباشرة بما كتب كما عرف الصحفي منه، بل لسبب آخر يتعلق بماضي وتبعات تجربته التي يريد الانتهاء منها وبدأ حياة جديدة، ولن يتحقق له ذلك إلا بمقابلة جلّاديه وكل من عامله بسوء، ودعوتهم لشرب كأس من الشاي في بيته.

أعلن عن رغبته بالعفو عنهم ومسامحتهم، وطلب من صديقه الصحفي مساعدته في تنفيذ ما يصبو إليه. لكن كيف يمكن للصحفي تحقيق ذلك وسجّانوه كانوا كلهم ملثمين أثناء التحقيقات معه، ولم ترد أسماءهم الحقيقية في التقارير المخابراتية السرية؟

مهمة عسيرة قبِل بها بدافع رغبته في مزيد من التوثيق السينمائي، وراح يبحث عن أشباح وسط حقول ملغومة بالسرية وعدم الرغبة بالكشف عن تجاوزات قانونية وانتهاكات صارخة للأعراف الإنسانية تورط بها قادة ومسؤولون كبار.

 

 

تسهيلا للمهمة يسجل محمدو شريطا قصيرا (فيديو مصور) موجها للمحققين معه ولمُعذبيه يكرر فيه دعوته إليهم، ويقوم بنشره على شبكة الإنترنت، أملا في أن يراه أحدهم ويقوم بالاتصال به مباشرة.

جندي المارينز.. سجان يطلب المغفرة لنفسه

يمضي الصحفي في بحثه، ولصعوبة إتمامه بنفسه يستعين بزميله الصحفي الاستقصائي "بول إيريك"، ويطلب منه المساعدة، وأثناء مراجعتهما لتحقيقات الكونغرس الأمريكي المعنية بقضية "صلاحي" يجدان اسما لم يحذف من التقارير السرية؛ وهو "جندي المارينز".

هذا اللقب ورد في حديث الموريتاني مع الصحفي عن مجموعة المحققين السرية التي كانت تعمل تحت عنوان "فريق المشروع الخاص" الذي أشرف عليه وزير الدفاع آنذاك، وأوكلت إليه مهمة انتزاع الاعترافات من سجناء غوانتانامو المتهمين بالإرهاب من دون مسوغات قانونية، ولا حتى توجيه التُهمة إليهم رسميا، وباستخدام أفظع أساليب التعذيب الجسدي والنفسي معهم.

بدون سابق إنذار يتصل "جندي المارينز" بالصحفيين ويطلب منهم المجيء إلى بيته من دون كاميرات ولا أجهزة تسجيل صوتي، يبدو الندم ظاهرا عليه، وميله للتدين والمواظبة على زيارة الكنيسة جلي في سلوكه، ومع ذلك فقد أنكر تورطه في التعذيب، وبرّر ممارساته بأنها "تعليمات خاصة" من وزارة الدفاع تنص على استخدام أساليب وطرق تحقيق غير عادية مع المتورطين بتفجيرات 11 سبتمبر.

يُقر "جندي المارينز" بأنه كان يتوقع مقابلة "إرهابي" عملاق الجثة قوي البنيان، لكنه تفاجأ حين دخل عليه في زنزانته بضآلة حجم الرجل وعدم إدراكه لما كان يجري حوله. حيث يطلب من الموريتاني العفو والمغفرة له بشخصه وباسمه لا باسم أمريكا.

جندي المارينز كان قد طلب من الموريتاني العفو والمغفرة له بشخصه وباسمه لا باسم أمريكا

 

يخبر الصحفي السجان أن محمدو كتب عنه في كتابه، وأشار إلى إحساسه بأنه لم يكن راغبا في تعذيبه، على عكس المناوب الليلي الفظيع الذي كان يطلق عليه اسم "مستر إكس".

"مستر إكس".. سجان عملاق يرفض الاعتراف بالبراءة

كان الرجل العملاق "مستر إكس" الأشد قسوة بين المعذبين، حيث يصف الموريتاني أساليب التعذيب الذي كان يمارسها معه أثناء مناوبته الليلة، ويشير إلى أشدها إيلاما، وهو "الغرق الوهمي"، وتركه عاريا في غرفة باردة خلال ساعات طويلة تنطلق خلالها أصوات موسيقية عالية تمنع عنه النوم لعدة ليال.

كسر العملاق أضلاع السجين مرتين وكاد يموت اختناقا بين يديه. يسأل الصحفي "محمدو" ما إذا كان يريد استضافته رغم كل ما فعله به؟ يجيبه بالإيجاب.

يقابل الصحفيان المحقق في مكان سري، ويخبرهما بعدم رغبته في مقابلة الموريتاني وجها لوجه مع أنه يشعر بتأنيب ضمير، لكنه غير متأكد من براءته تماما، وما زال يرى أنه هو من يقف وراء تجنيد الطيّار الذي قاد الطائرة التي اصطدمت بأحد الأبراج، وأنه ما زال عدوا للدولة.

الرجل العملاق "مستر إكس" هو الأشد قسوة بين المعذبين الذين قاموا بتعذيب محمدو ولد صلاحي

 

ليس وحده من يظن ذلك رغم تبرئة المحاكم الأمريكية للمتهم، وإطلاق سراحه لعدم توفر أدلة تدينه، فهناك المحللة المخابراتية "سيدني" التي ما زالت ترى فيه إرهابيا يستحق الموت.

محللة المخابرات.. خطوة استباقية مدروسة لقلب الطاولة

أثناء بحثهما المضني يصادف أن يشرع فريق الفيلم الروائي "الموريتاني" بالتصوير في هوليود، ورغم عدم استجابة محققين إضافيين لنداءاتهما المتكررة، فإن محللة مخابراتية أشرفت على التحقيقات معه في غوانتانامو وحللت شخصيته اتصلت بهما، وطلبت منهما الحضور لسماع وجهة نظرها بكل ما كتبه "الموريتاني" في كتابه، وما سمعته عن ورود اسم "فريق المشروع الخاص" في سيناريو الفيلم.

لا تخفي المحللة "سيدني" غضبها مما يجري، وتستغرب كيف يسمح العالم لإرهابي قتل أبرياء بأن يظهر في أفلام أمريكية وينشر له كتابا، فالمحللة واثقة تماما من تورطه وتجنيده لمحمد عطا، وتعترف بأنه شخصية كاريزمية، ويتمتع بذكاء خارق، ولديه قدرة على إقناع الآخر، وهذا ما وجده فيه أسامة بن لادن، وبسببه اعتمد عليه في التخطيط لهجمات 11 سبتمبر.

المحللة المخابراتية "سيدني" هي من أشرفت على التحقيقات مع "محمد ولد صلاحو" في غوانتانامو

 

يفسر الصحفيان دعوتها بأنها خطوة استباقية مدروسة يُراد بها عدم هيمنة أخبار "الموريتاني" لوحده على المشهد الإعلامي، ولكن إشارتها إلى انضمام صلاحي للقاعدة، وذهابه للقتال في أفغانستان خلال الاحتلال السوفياتي لها دفعتهما للعودة إليه، وسؤاله عن تلك التجربة وكيف يفسر وجوده هناك؟

هاتف أسامة بن لادن.. اتصال على مسامع المخابرات العالمية

يسرد محمدو تجربته مع "القاعدة" أثناء الاحتلال السوفياتي لأفغانستان وفق سياقها التاريخي، وقتها وقف العالم الغربي وبشكل خاص الولايات المتحدة مع المجاهدين الأفغان ضد الوجود السوفياتي في بلدهم، ولم يعتبر المشاركين فيها إرهابيين، فقد دعمتهم عسكريا لأغراض سياسية، لكن بعد 11 سبتمبر تغير الأمر، وصار كل من كان هناك إرهابيا في نظرهم.

يسجل موقفا نقديا من التجربة التي خاضها، ثم تركها وعاد إلى عائلته في ألمانيا التي كان يدرس فيها، وبعد ست سنوات من هجره التجربة اتصل به قريب له من قيادات القاعدة من هاتف مرتبط بالقمر الصناعي عائد لأسامة بن لادن، وقد رصدت وكالة "سي آي أي" الأمريكية المكالمة، وعليه اعتبرته من المقربين لزعيم "القاعدة".

المخابرات الألمانية أيضا اعتبرته شخصا غير مرغوب بوجوده على أراضيها، فاضطر للسفر إلى وطنه، وعند حدوث 11 سبتمبر أصبح كل المشكوك بارتباطهم بالتنظيم مطلوبين للعدالة الأمريكية. ويسرد الطريقة التي جرى تسليمه بها إلى الأمريكيين عن طريق أجهزة الدولة الموريتانية.

يقابل فريق الوثائقي في نواكشوط محمدو بوجود الشخص الذي سلمه عن طريق المطار، ويعترف الرجل بفعلته وجهله بما كانت تبيته المخابرات الأمريكية، في حين يعلن الموريتاني أنه الشخص الوحيد في العالم الذي سلمته دولته إلى مخابرات دولة ثانية.

تهديد نقل الوالدة إلى سجن الرجال.. اعترافات صلاحي

مع مرور الأشهر كان الصحفيان يقتربان من مقابلة الشخص الذي كلفته وزارة الدفاع بتحطيم الموريتاني بكل الأساليب، حيث أرادت -تحت تأثير التعذيب الوحشي- انتزاع اعترافات منه بالقوة بتورطه بكل ما كانوا يشكون به، ولم يتمكنوا من إثباته واقعا.

الرجل المسؤول عن "المشروع" اسمه السري "ريتشارد"، أو "ديك زولي". ففي ولاية شيكاغو استقبل "ريتشارد" الصحفي، وأخذ يعرض عليه اعترافات محمدو التي تثبت تورطه في هجمات 11 سبتمبر، وأنها جاءت ليس بفعل التعذيب، إنما بفعل التوصية "الخاصة" التي تجيز له اعتقال أفراد من أسرته، وجلبهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

يمضي في شرح النقطة الحرجة التي أجبرت الموريتاني على الاعتراف، وتتعلق بتوصيل المحققين معلومة له تفيد بأنهم يخططون لنقل والدته سرا إلى سجن أمريكي، ووضعها بين الرجال المسجونين، وهو خبر أضعف السجين ودفعه للاعتراف.

مسؤول فريق التعذيب اسمه السري "ريتشارد" أو "ديك زولي، وهو المسؤول عن المشروع

 

يذهب الصحفي لمقابلة صلاحي ويسأله عن حقيقة ما جرى، حيث يقدم له دليلا قاطعا على أن اعترافاته قد كُتبت تحت تأثير التعذيب والتهديد، وأنه أنكرها فيما بعد، وأثبتت خذلانها عندما خضع لفحص جهاز الكذب، فقد أكد الجهاز مرتين صدق ادعاء السجين بأنه لم يدلِ بتصريحاته بكامل إرادته، وإنما جاءت تحت تأثير التعذيب والترهيب.

"نعم أريد الانتقام".. اتصال بالجلادين عبر الإنترنت

من المفارقات أن مسؤول "الفريق" والمحللة المخابراتية لا يعترفان بجهاز الكذب، ويؤكدان صحة مواقفهما وقناعتهما رغم الحكم الصادر ببراءته، وهنا يسألها الصحفي: هل أنت أذكى وأحرص من بقية أجهزة المخابرات الأمريكية؟

جوابها غامض، لكنه يتضمن عدم اعتراف بقدرات بقية الأجهزة، موقفها قريب من موقف المسؤول الذي يعلن غضبه من فريق العمل السينمائي والتهكم عليهم علنا.

نقل الصحفي إلى صلاحي ما جرى مع المسؤول عن تعذيبه، ثم سأله عن موقفه منه ومن البقية التي تشبهه، وهل يريد الانتقام منهم لعدم اعترافهم ببراءته. يجيب بصراحة، نعم أريد الانتقام، لكن ليس بقتلهم أو إيذاء عوائلهم، فبالنسبة إليه أفضل طريقة للانتقام هي العفو عنهم.

هذا يعيد إليه توازنه الداخلي الذي يريده ويريد به الانتقال إلى مرحلة أخرى من حياته يجتمع بها بعائلته وطفله الذي ترفض السلطات الألمانية جمعه به لحد الآن، في حين تجاوز هو مرحلة الانتقام إلى مرحلة العفو عندما تحدّث مع جلّاديه عبر الإنترنت بترتيب من المخرجين، من دون أن تغيّر المحادثات القصيرة من دواخل بعضهم كثيرا، فما يهم صلاحي اليوم هو لقاء عائلته والعيش معهم بعد طول غياب وعذاب.