إعلانات

الرجل مخبر وليس مظهراً...  (من ذكرياتي في موريتانيا) 

جمعة, 23/07/2021 - 01:13

كتب الأستاذ العراقي المنبت،  الموريتاني الهوى موفق العاني

موريتانيا العربية التي تغفو رمالها على شواطئ الأطلسي ، يعيش على تلك الرمال شعب أصيل يحمل قيم العروبة ويعض بالنواجذ على لغتها وكتابها العظيم ويصدق هذا القول على زمن يمتد الى مئات السنين ، لقد تعلم النساء والرجال في هذه الصحراء المترامية الأطراف على أيدي مشايخ وعلماء في علوم القران واللغة في مدارس في الهواء الطلق أو الخيمة على مر الأعوام يطلق عليها أسم المحاظر ، فكانت مراكز اشعاع علمي في زمن يعاني الملايين في عموم الأرض العربية من الجهل والأمية ، وقد تخرج من تلك المحاظر عالمات وعلماء مارسوا تعليم أبناء جلدتهم القران والحديث والشعر والبلاغة ، وكل ذلك رافق أجدادهم عبر تلك الأزمان الموغلة في القدم ، وبعد الاستقلال في مطلع ستينات القرن الماضي ، بدأت حضارة الغرب مابعد الثورة الصناعية تدخل هذا البلد العريق ، وقد منحني الخالق العظيم فرصة العيش مع هذا الشعب الرائع في أواسط سبعينات ذلك القرن ، وتعرفت عن قرب على ذلك العنفوان العلمي الذي يحمله هذا الشعب ويفخر به على شعوب الدنيا بجدارة واستحقاق .. 

بعد هذه المقدمة التعريفية أنتقل الى موضوع العنوان : 

خلال فترة وجودي بين ظهراني هذا الشعب العروبي الأصيل كأستاذ للأدب العربي في معهد تكوين الأساتذة بنواكشوط العاصمة أصبح لي العديد من الأصدقاء والمعارف من بينهم عربي من لبنان يقيم هناك وله متجر أتبضع منه ، وقد تعمقت صداقتنا وكان يدعوني وعائلتي الى داره وأرد له ولعائلته الدعوة في داري ، وبعض الأحيان أذهب الى متجره وأجلس عنده ، وفي أحد الأيام دخل رجل موريتاني لا تبدو عليه مظاهر الغنى ، واللبناني يستورد الخضار والفواكه من خارج موريتانيا لأنها غير موجودة وقد لا يعرفون أسماءها وذلك يؤكده شاعرهم الكبير محمد فال بن عينينا : 

ولــم نزل مـورق القـيـصوم نمضغهُ == ولــيس يُمضَغُ فـيـنا اللـوز والعـنبُ

لو لـم يكن غـيـر هــذا عندنا ٌنسَبٌ  .. نُـدلـي بـه لـكـفـانا ذلك الـنــسـبُ 

وعندما دخل ذلك الرجل سأل صاحب المحل عن سعر كيلو العنب المعروض في البراد . فقال صاحب المحل : هذا ثمنه مرتفع !! فقال الموريتاني بغضب : أجبني عن سؤالي . فقال له : ثمن الكيلو - على ماأكثر- ستون أوقية . فما كان من ذلك الموريتاني البدوي الا ان قال له : أوزن كل ماهو معروض . فقال متعجباً : كل هذا الذي في البراد ؟ فأجابه البدوي : بنعم !! فقلت له همساً : ياأخي أجب طلب الرجل . فأمر عامله أن يقوم بوزن العنب ، وبعد الأنتهاء أخبره بالثمن !! 
فالتفت البدوي الى العامل وقال له : احمله وقم بتوزيعه على الذين يجلسون في باب المحل ، حيث كان مجموعة من الرجال والنساء يطلبون الصدقة في باب المتجر . ثم أدخل يده الى جيب دراعته ( وهي اللباس الوطني الموريتاني) وأخرج رزمة كبيرة من النقود ودفع الثمن ، ثم قال بغضب : أيها العربي :

تَرى الرَجُلَ النَحيفَ فَتَزدَريهِ == وَفي أَثوابِهِ أَسَدٌ هصورُ  

وَيُعجِبُكَ الطَريرَ فَتَبتَليهِ == فَيُخلِفُ ظّنَّكَ الرَجُلُ الطَريرُ 

لقد عَظمُ البعيرُ بغيرِ لُبٍ == فلم يَسْتَغنِ بالعظمِ البَعيرُ 

فأخذ يعتذر من البدوي ولكن بعد فوات الأوان وخيبة النظرة وهفوة اللسان … 

——-الصورة عام 1977——-