إعلانات

مستقبل لسان الضاد خارج بلاده.. البوسنيون يضربون المثل في حب اللغة العربية

جمعة, 25/12/2020 - 11:57

محمد شربي - سراييفو

 

أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي

فيا وَيحَكُم أَبلى وَتَبلى مَحاسِني وَمِنكُم وَإِن عَزَّ الدَواءُ أَساتي

فلا تَكِلوني لِلزَمانِ فَإِنَّني أَخافُ عَلَيكُم أَن تَحينَ وَفاتي

منذ قرن، واللغة العربية تشكو الهجر والإهمال في موطنها، كما عبرت أبيات شاعر النيل حافظ إبراهيم، لكن ربما وجدت دعوى الشاعر المصري صداها في الشمال الأوروبي حيث بلاد البلقان وشعوبها العريقة.

البوسنة والعالم العربي

البوسنة والهرسك، دولة صغيرة من حيث الجغرافيا وعدد السكان، تقع بعيدا عن العالم العربي، لكنها تعطي المثال في حب العربية، وعشقها، والإبداع في التعبير عن ذلك.

ويشعر البوسنيون أنهم مرتبطون، رغم بعد المسافة، بالعالم العربي، لدرجة أن أفديا حضروفيتش سفير البوسنة في القاهرة خلال حرب تسعينيات القرن الماضي، تقدم بطلب لأمين عام جامعة الدول العربية آنذاك (عمرو موسى) لقبول البوسنة والهرسك عضوا مراقبا.

الإقبال على تعلم العربية

اعتادت عائلات بوسنية عديدة إرسال أبنائها، في سن السادسة، إلى كُتّاب الحي، ليتعلموا الحروف العربية، كي يتمكنوا من قراءة القرآن الكريم. أما على المستوى الرسمي، فالعربية، حاضرة وبقوة في المنهج التعليمي.

 

فيوجد قسم لدراسة العربية وآدابها، ضمن كلية الفلسفة جامعة سراييفو، بهدف لتخريج مدرسي العربية. كما تُدرس لغة الضاد بعدد من الكليات.

كما توجد 6 مدارس ثانوية، تابعة للمشيخة الإسلامية بالبوسنة والهرسك، تُدرّس العربية مادة أساسية. وقد أتقن العديد من الطلاب البوسنيين العربية، لدرجة المشاركة في مسابقات دولية والفوز بمراكز متقدمة.

وأحدث تلك المسابقات تلك التي أقامتها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) في مايو/أيار 2020، تحت عنوان جائزة "بيان" للإبداع التعبيري بالعربية، حيث حصد الطلاب البوسنيون المركز الأول في اثنين من فروع المسابقة الثلاثة.

الطالب ناصر شابيتش، الفائز بالمركز الأول في فرع "جائزة الفتيان" تحدث للجزيرة نت "أحببت العربية منذ أن كنت في الكُتّاب، لأنها لغة ديني الإسلام، ولغة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وبعد أن أنهيت المدرسة الابتدائية، التحقت بمدرسة عثمان ريجوفيتش الثانوية، حيث أدرس العربية ومواد أخرى مرتبطة بهذه اللغة كالفقه والحديث والتفسير".

ويستطرد "كلما تعلمتها أكثر زاد حبي لها". وعن فوزه بمسابقة الإيسيسكو، قال ناصر "لم أفز وحدي، بل كان معي فريق من زملائي، وقد وفرت لنا المدرسة الأجواء المناسبة للتحضير والمشاركة بقوة في المسابقة".

"هذا تكريم وتقدير كبير لي ولمدرستي ولبلدي البوسنة" هكذا يختم شابيتش كلامه.

 

والتقت الجزيرة نت الطالب رياض سوباشيتش، الذي قاد فريق كلية الدراسات الإسلامية بسراييفو، للفوز بالمركز الأول فرع الشباب، فقال "ارتبطنا باللغة العربية كعائلة، فجدي من علماء البوسنة وكان مهتما بالعربية، وقد أحببتها، وقررت أن أتقنها ليس فقط بسبب أنها لغة القرآن الكريم، لكن لأنها كلغة تعجبني، وأشعر أنها تتميز بسعتها، وجمالها في الصوت والشكل".

وعن مسابقة الإيسيسكو، قال "عندما قررنا المشاركة، كفريق، قال لنا زميلنا حلمي (المنسق): لن نشارك بهدف المشاركة، بل بهدف الفوز"، وأكمل سوباشيتش "عقدنا العزم على الفوز، ألفنا نصا بعنوان (الحاجة أم الاختراع) حفظته عن ظهر قلب، ثم قمنا بتصويره في أماكن متفرقة بسراييفو، وبهذا تمكنا، أيضا، من تقديم سراييفو للعالم الإسلامي.. والحمد لله فزنا بالمركز الأول".

ويختم حديثه بالقول "لي رجاء من إخواننا العرب أن يحافظوا على العربية، وأن ينشروها، وأهم شيء أن يتحدثوا بالفصحى، حيث أجد صعوبة في التفاهم مع العرب الذين يزورون البوسنة عندما يتكلمون بلهجات مختلفة".

لغات هجين

يشترك مع سوباشيتش في الرأي آلاف البوسنيين الذي يجتهدون لتعلم العربية، فيسافرون للدراسة بالدول العربية. لكنهم يفاجؤون بندرة وجود هذه اللغة، فالجميع يستخدم العامية أو لغة "هجينا" من العربية ولغات أجنبية.

حتى أن المحاضرين بالجامعات يشرحون الدروس بالعامية! يقول عمر (طالب بوسني تخرج في جامعة الأزهر) "فوجئت بالأمر، في أول محاضرة، فرفعت يدي، وقلت للمحاضر: يا أستاذ أنا لا أفهم كلامكم، لماذا لا تتكلمون بالفصحى؟ فأجاب: يا بني، لو تكلمت بالفصحى فلن يفهم كلامي أغلب الحاضرين!!" يبتسم عمر، ويضيف "ثم اعتدت على ذلك، وتعلمت العامية المصرية".

سوباشيتش الفائز بالمركز الأول فرع الشباب في مسابقة الإيسيسكو جائزة "بيان للإبداع التعبيري" (الجزيرة)

ومن جانبها قالت الطالبة سمية التي ذهبت لإحدى دول الخليج بهدف إتقان العربية "لم أجد اللغة العربية حاضرة في المجتمع هناك، فالمواطنون يحرصون على الكلام بالإنجليزية أكثر من لغتهم الأم، أما في الأسواق والأماكن العامة، فتنتشر لغة مشوهة ليس لها علاقة بالفصاحة أو النحو، أصحابها هم الوافدون من دول آسيوية".

وتستطرد سمية "قد أفهم ألا يجيد الأجنبي العربية، ويتكلمها بطريقة غريبة، لكن ما لا يُصدق أن أهل البلاد قبلوا أن يتعاملوا بهذه اللغة المشوهة، بل ويتواصلون بها مع الوافدين، بدلا من الحفاظ على لغتهم".

"لو فعلوا لوجد الأجنبي نفسه مضطرا لتعلم لغة البلد الذي يقيم فيه، كما يحدث في كل دول العالم" تختم كلامها.

وكما أحب البوسنيون العربية، فقد أحبوا الأدب العربي، واهتموا به. وبرز مترجمون رواد، من أصحاب المعرفة والخبرة، عملوا على تقديم الأدباء والشعراء العرب إلى المجتمع البوسني، من خلال الكتابات المتخصصة في الأدب العربي، وترجمة الكثير من الروايات، وكُتب الشعر العربي، مثل الأكاديمي أسعد دوراكوفيتش الذي ترجم العديد من المؤلفات مثل "المعلقات، ألف ليلة وليلة" كما قام الأستاذ محمد كيتسو بترجمة روايات نجيب محفوظ إلى البوسنية.

كما تناول الكثير من الباحثين البوسنيين الأدب العربي بالدراسة والبحث، مثل الدكتور ميرزا سرايكيتش مدرس الأدب العربي المعاصر بكلية الفلسفة جامعة سراييفو، الذي قال للجزيرة نت "أحببت العربية كمسلم، وأتقنت استخدامها أثناء دراستي في كلية الفلسفة، لكن الأمر اختلف تماما، عندما قرأت أبيات قصيدة (فكر بغيرك) لمحمود درويش، وكانت هذه أول مرة أقرأ له، شعرت بشيء يتحرك داخلي، شعرت بنبض من نوع ما، أيقظ في نفسي مشاعر جياشة وطاقة إيجابية، قلت: هذه أنشودة لا بد أن يقرأها البوسنيون، بل لا بد أن يقرأها العالم كله".

ويضيف الدكتور سرايكيتش "نشأت، من يومها، علاقة وجدانية بيني وبين الشاعر الكبير، رأيت فيه شاعرا حُرم من الدولة فأقام دولته في شعره".

بل قرر مدرس الأدب العربي المعاصر أن يترجم تلك العلاقة الوجدانية على أرض الواقع، فاختار أن يكون موضوع رسالته للدكتوراه "شعر المقاومة في أعمال محمود درويش".

كما ترجم مختارات شعرية لدرويش إلى البوسنية، وأصدرها في كتاب بعنوان "أشواك بلا نهاية" وقد حاز على جائزة جمعية الناشرين بالبوسنة والهرسك، كأفضل عمل مترجم لعام 2009.

ولم يكن سرايكيتش مبتدعا في ذلك، بل كان سائرا على خطى أستاذه أسعد دوراكوفيتش الذي أصدر عام 1984 أول مختارات شعرية لدرويش بالبوسنية بعنوان "قصائد مقاومة". وبهذا تتواصل أجيال الأدباء والمثقفين البوسنيين في حب العربية والأدب العربي.

ورغم مرور أكثر من قرن على أبيات شاعر النيل حافظ، فإنها ما زالت صالحة، بل زادت الحاجة إليها، بعد أن زاد البين/البون بين العربية وأبنائها.

فهل آن أوان الحديث عن "مستقبل اللغة العربية خارج أرضها" كما تحدث الغزالي عن "مستقبل الإسلام خارج أرضه"؟!

المصدر : الجزيرة