إعلانات

الإقطاعية التقنية والعصر الوسيط الجديد

اثنين, 20/07/2020 - 00:56

د. السيد ولد أباه

 

في كتابه الأخير الصادر بعنوان «ظهور الإقطاعية الجديدة»، يذهب عالم الجغرافيا الأميركي «جويل كوتكين» إلى أن العالم في طور الرجوع للعصر الوسيط، لكن بخريطة طبقية وثقافية جديدة. إنه العصر الوسيط الجديد المتولد عن التقنيات العليا الجديدة، بطبقته الإقطاعية المتشكلة من الأوليغارشية المالية المتحكمة في الثورة التقنية الراهنة، ومؤسسته العقدية المقدسة التي تبشر بقيم التبادل الحر والعولمة الاتصالية المطلقة، ونهاية الدولة الوطنية السيادية.
ويرى كوتكين أن النتيجة الكبرى لهذا التحول، هي تدمير الطبقة الوسطى التي كانت مرتَكز المنظومة الليبرالية الحديثة، عن طريق نقل الاستثمار الصناعي إلى الخارج والسيرورة المالية للاقتصاد العالمي. ففي حين يمسك عدد قليل من الشركات الكبرى بمفاصل الاقتصاد المعولم، يتحلل النسيج الصناعي التقليدي في جل الدول، من شركات عمومية وخصوصية ومنشآت حرفية، بما ينعكس سلباً على الاستقرار الاجتماعي والأمن الأهلي في مناطق عديدة من العالم، نتيجة لاستفحال البطالة، وتزايد نسبة الفقر، وعجز الأجهزة المركزية للدول عن أداء وظائفها التنظيمية والخدمية الحيوية.
لقد ظهرت هذه الثغرات التي يتحدث عنها كوتكين في كتابه الجديد خلال جائحة كورونا الحالية، التي كشفت عن عمق الأزمات الاجتماعية في الدول الصناعية الكبرى التي بدت في حالة عجز كلي عن حماية ورعاية مواطنيها، دون التضحية بمعايير وضوابط تسيير الحقل الاقتصادي، الذي غدا في جوانبه الكبرى خارج سيطرة سلطة القرار السيادية للحكومات.
إن هذا التحول الذي يرصده كوتكين في أطروحته حول «العصر الوسيط الجديد»، يستوقفنا في مستوين أساسيين:
أولاً: علاقة المعطيات الاقتصادية الجديدة بالمنظومة السياسية. وفي هذا المستوى، يتعين التنبيه إلى أن الدولة الليبرالية الحديثة، القائمة على قسمة العمل وما يرتبط بها من تمايز بين دائرة المجتمع المدني ودائرة الحكم التنفيذي، هي نتاج الثورة الصناعية الأولى وما أفضت إليه من نظام اقتصادي. وعلى الرغم من الاختلاف الواسع بين طبيعة الأنظمة السياسية التي عرفها العالم في القرنين الأخيرين، فإن السمات الأساسية للنظام السياسي متماثلة إلى حد بعيد في مقوماتها المحورية، من شرعية قانونية، ومرجعية سيادية، وتصور تمثيلي للإرادة المشتركة. ومن هذا المنظور، ليس الخيار الديمقراطي، من تعددية حزبية ونظام انتخابي، سوى الآلية الإجرائية الفاعلة التي اعتمدتها المجتمعات التي عاشت صدمة التنوع الفكري والعقدي، فلم يعد بالإمكان بناء الحقل العمومي فيها على تصور معياري أحادي ومطلق. بيد أن التحولات الأخيرة التي عرفها العالم في ظل الثورة التقنية الصناعية الجديدة، حدت من فاعلية نموذج الدولة الوطنية السيادية، وشلّت الهياكل التمثيلية والنظم المؤسسية التي تقوم عليها، بما يمكن إجماله في انفصام منطق السياسة عن منطق السيادة، وانفصام المجتمع عن الحقل السياسي. وما تعيشه الديمقراطيات العتيدة من أزمات حادة، دليل ملموس على هذه الأزمة المضاعفة.
أما المستوى الثاني، فيتعلق بطبيعة الخريطة الأيديولوجية المتولدة عن التحولات الاقتصادية والاجتماعية الأخيرة. إن ما يتعين التنبيه إليه هنا، هو أن ما أطلق عليه كوتكين العصر الإقطاعي الجديد، هو التجسيد الحي للتناقض بين المجتمعات الصناعية التقليدية التي تشكلت في عصور الحداثة على أساس منطق الإنتاج المكثف ونمط العمالة المعوضة، وما يرتبط بهما من تركيبة طبقية ونقابية تعكسها الولاءات السياسية، من جهة، وبين المجتمعات الصناعية الجديدة التي تولّدت عن الثورة التقنية الحالية بمفهومها للعمل غير المادي وتصورها للاقتصاد التشاركي الشبكي، من جهة ثانية. 
وإذا كانت التحليلات السائدة تذهب إلى اختزال الخريطة الأيديولوجية للعالم الراهن في التعارض بين الليبرالية الكلاسيكية والأنظمة الشعبوية المحافظة الصاعدة، فإن الوضع أكثر تعقيداً في الواقع، باعتبار أن الاتجاهات الليبرالية الجديدة، التي احتضنت قوى العولمة الصاعدة، أصبحت في حالة انفصام مع القاعدة المجتمعية العريضة، المقصية من ثمار الطفرة التقنية المالية التي تتحكم فيها «الإقطاعية الجديدة»، في حين أن الأنظمة المدعوة بالشعبوية احتلت موقع حركات اليسار التقليدي في الدفاع عن الكتلة الواسعة، المغبونة، المحرومة. 
لقد كشفت الأزمة الصحية العالمية الراهنة عن عمق هذا الاستقطاب الذي أخذ شكل نقاش نظري وعملي حاد، حول دور الدولة ووظيفتها الحمائية والإدماجية. ولقد اعتبر عالم الاقتصاد «توماس بيكتي» أن الخيار الأمثل للتعامل مع التحديات الراهنة هو الرجوع لمنطق السيادة، لكن بمنظور كوني في مقابل مفهوم السيادة الوطنية الانكفائية، بما يعني إعادة الاعتبار للدولة لمواجهة اختلالات العصر الوسيط الجديد.