إعلانات

فقه الطوارئ وتأويلية الدين الجديدة

اثنين, 27/07/2020 - 00:54

د. السيد ولد أباه

 

«فقه الطوارئ» هو المفهوم المبتكر الذي كان موضوع المؤتمر العلمي المتميز الذي عقد الأسبوع الماضي بشراكة بين مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي ورابطة العالم الإسلامي، مواكبة للجهود الباهرة والناجحة التي اضطلعت بها دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية في محاربة وباء كورونا المستجد. 
في ورقته العلمية الرصينة والمعمقة التي تقدم بها للمؤتمر العلامة الشيخ عبد الله بن بيه رئيس مجلس الإفتاء في دولة الإمارات، طرح الحدود التصورية والمنهجية لمفهوم «فقه الطوارئ»، من منطلق التحديدات الأصولية الشرعية، لكن من منظور تأويلي جديد لا شك أنه يدشن أفقاً خصباً للفكر الإسلامي الذي لا يزال المبحث الفقهي هو أقل جوانبه حظاً من التجديد والاجتهاد.
وإذا كان الشيخ ابن بيه يتبنى التعريف الأصولي المعروف للفقه الذي يرجع للإمام الشافعي، أي اعتباره العلم بأحكام التكليف العملية المستنبطة من النصوص الشرعية، فإنه ينبهنا إلى أن الممارسة الاستنباطية ليست، كما يُظن عادةً، مجرد استخراج آلي لأحكام ثابتة جامدة من أصول صريحة واضحة تدرك من النص بياناً أو قياساً، بل هي منظور تأويلي متكامل تحدده مستويات الشريعة المختلفة، من مقاصد وأحكام وقيم وسياقات تنزيل، وفق مقاييس الواقع الذي هو من الأطر الحاسمة في التشريع باعتباره، حسب عبارة الشيخ، «شريكاً في تنزيل الأحكام وتطبيقها». ومن هنا يتسنى للعلامة ابن بيه أن يعرّف فقه الطوارئ بأنه «فقه يبحث عن اليسر في مواطن العسر، وعن السهولة في مواقع الوعورة، وعن الرُّخَص لقيام موجبها بدل العزائم».
وكما هو جلي، يندرج فقه الطوارئ في صلب متطلبات المسؤولية الشرعية المترتبة على ضبط وتسيير العبادات وفق إكراهات الأزمة الصحية الراهنة التي فرضت أحكاماً مؤقتة في الحقل الديني، بالإضافة إلى استثمار دوافع ومحددات الأخلاقية الدينية في دعم سياسات التضامن والتكافل التي يقتضيها الوضع الراهن.
ومن الفوائد الكبرى لفقه الطوارئ إبراز جوانب اليسر والرحمة في الدين، التي تتجلى في تعليق أو تأطير بعض الإلزامات الشرعية المتعلقة بصلاة الجماعة والجمعة وأحكام العيد والحج، بما كشف عن إحدى القواعد التأويلية الأساسية في الشريعة، وهي مرونة الأفعال التعبدية، وقابليتها للأداء وفق محددات التدين الفردي.
وإذا كانت هذه الملاحظة تنحصر في الأحكام الشعائرية التي تدخل وفق التصنيف الفقهي الكلاسيكي في دائرة العبادات في مقابل المعاملات، فإنها في الحقيقة تحيل إلى تحول منهجي جوهري في فهم الفقه، بإخراجه من التصور الوضعي الذي كثيراً ما تم اختزاله فيه.
ما نعنيه هنا بالتصور الوضعي، هو اعتبار علم الفقه منظومة من الأحكام التكليفية التفصيلية المتعلقة بسلوك الإنسان في علاقته بخالقه (العبادات) وبغيره من المخلوقات (المعاملات). لقد تبنى الأصوليون منذ الشافعي هذا التحديد (الذي لا يبدو أن الأحناف المتقدمين اعتمدوه) لسبب وجيه ومقبول، هو علاقة التمايز الواضحة في نظام الاجتماع الإسلامي الوسيط بين دائرة التشريع الديني التي يتحكم فيها الفقهاء، ودائرة التدبير السياسي لأحكام الشرع الجماعية المنوطة بالدولة.
إلا أن العصور الحديثة قلبت هذه المعادلة جوهرياً من خلال بعدين أساسيين هامين، هما: انفصام الهوية العقدية الأخلاقية للفرد وهويته الاجتماعية المدنية، وانفصام المجتمع المدني الذي هو حقل التواصل الاجتماعي المتنوع، والدولة بصفتها التعبير عن الهوية الجماعية المشتركة. 
إن هذين التحولين يؤسسان واقعاً جديداً بالكامل، لابد للمدونة الشرعية أن تراعيه وفق منطق «الفروق» الذي هو من الأصول المنهجية الأصيلة في الفقه، كما بين شهاب الدين القرافي المالكي في القرن السابع الهجري، ويعني به التمييز داخل قواعد الفقه بين مستويات التنزيل المختلفة. 
لم يعد بإمكان الفقيه أن يشكل سلطة مرجعية علمية واجتماعية مستقلة عن الدولة وهياكلها المؤسسية الجديدة، وليس خيار «ولاية الفقيه» الذي أخذ به الإسلام السياسي الشيعي (و«السني» بصيغة مختلفة قليلاً) سوى صورة خادعة للهيمنة الاستبدادية للنظم الأيديولوجية الحديثة، فلا علاقة له بالسلطة الرمزية والتأويلية للفقيه الكلاسيكي. 
لم يعد بإمكان الفقيه أن يمارس دوره الوضعي التقنيني خارج السياق التأويلي الأوسع الذي هو أوضاع المجتمع وتقاليده وأعرافه ومحددات المجال العمومي، والذي هو ليس سلطة قهرية عمياء، بل هو إطار التضامن الجماعي والمصالح المشتركة.
ومن هنا ندرك أن «فقه الطوارئ» يعكس، في ما وراء ظرفية الحدث الراهن، تحولاً نوعياً في تأويل الدين وتنزيل أحكامه في الوقائع المتجددة، وتلك فعلاً هي الدلالة الصحيحة للفقه.