إعلانات

المقاومة و"المقاومة بالحيلة"

سبت, 13/06/2020 - 23:55

أ.د. عبد الله السيد (*)

 

 

تابعت تدوينات تشكك في "مقاومة" الموريتانيين للمستعمر، و يذهب بعضها إلى حد السخرية من "ادعائها"؛ لذلك أحب تسجيل النقاط التالية:

أولا: من خصائص ثقافة أي مجتمع، مهما كان مستواه الحضاري، الحفاظ على ذاته، والدفاع عنها في وجه الغرباء؛ الأمر الذي يدفعه إلى صنع الأساطير والأمجاد في وجه خصوم يسعون إلى لصق المثالب والعيوب به.

من هنا شكلت الثقافة الخميرة الرئيسية للمقاومة؛ على أساس رموزها وقيمها تنطلق الجيوش وتصمد في ساحة الوغى، وتستعيد قواها بعد الهزيمة؛ لذلك فالمجتمعات تقاوم عسكريا، فإذا ما هزمت "قاومت بالحيلة" على حد وصف "جيمس سكوت"، فاعتمدت مبدأ "التقية"، ولجأت إلى الرموز والنكت التي تحرض على الغالب حتى تتمكن من الخروج من الغلبة.

ثانيا: الوجود الأوروبي على الشواطئ الموريتانية يرجع إلى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، والحروب التي وقعت بين الدول الأوروبية من أجل الاستئثار بالمنطقة معروفة، وعلاقتهم بالسكان المحليين مرت بمراحل؛ لم تكن في أي منها ودية، وكانت في كثير منها دامية. وقد فرض الأمراء خلال فترة من الزمن شروطهم على المستعمر مقابل الحصول على الصمغ العربي.

ثالثا: انفردت فرنسا بالنفوذ على المنطقة بعد اتفاقية توزيع المستعمرات، وبدأت سياسة التغلغل والنفوذ؛ فحاربت الشوكة العسكرية؛ متمثلة في الإمارات، ودرست المجتمع، وحددت خصومها وأعداءها، ووضعت خططها للاحتلال.

رابعا: لم تكن تلك الخطط خافية على المجتمع؛ فسرعان ما هب لمناهضتها؛ فاصطدم المستعمر بدولة الأئمة على الضفة، وبالإمارات القريبة منها، وكانت ردود المشايخ قوية زاجرة؛ الأمر الذي أخر دخول الاستعمار قرابة نصف قرن حتى يهيئ الظروف.

خامسا: دخل المستعمر مع بداية القرن العشرين فوجد مقاومة شرسة بحجم المجتمع وسلطاته التي لم تكن متوحدة على مستوى الإمارة الواحدة، أحرى بين الإمارات، كما أن الفقهاء والمشايخ الذين يشكلون سلطة روحية لم يكونوا على قلب رجل واحد؛ فمنهم من رأى:

- وجوب الهجرة لعدم قدرة المجتمع على المقاومة.

- ضرورة المعاهدة إذا ضمنت حفظ النفس والمال والدين ونشر العدل.

- وجوب المقاومة

سادسا: لا يقدح في المقاومة أن وجدت عونا من الإسبان لأنهم ينافسون فرنسا، أو تبنتها الدولة العلوية.

سابعا: بعد سيطرة الاستعمار عسكريا على المجال الجغرافي لم يستطع أن يتغلغل إلى وجدان المجتمع بسبب المقاومة الثقافية.

ثامثا: صحيح أن التقارير والرسائل الفرنسية تسمي أحيانا المقاومة انشقاقا (Dissidance)، لكنها كانت صريحة ونعتتها بالمقاومة (Résistance) أحيانا.

تاسعا: ينبغي أن يكتب التاريخ بعيدا عن النزعات الضيقة، والعواطف الذاتية؛ فمقاومة الأميرين بكار وسيدي أحمد والشيخ حماه الله وغيرهم هي مقاومة كل الموريتانيين.

الذي لا يستسيغه منطق التاريخ، ولا حقيقة الثقافة والمجتمع أن نقول إن المستعمر استقبل بالورود والهدايا، وإن آباءنا تماهوا فيه، وانخرطوا في جوقته.

 

____

 

(*) مثقف وأكاديمي موريتاني كبير ومدير بيت الشعر في نواكشوط