إعلانات

حرب حزيران على إحدى الجبهات

جمعة, 05/06/2020 - 01:06

محمد ولد الميداح

 

حرب حزيران على إحدى الجبهات

المكان : المذرذره...

الزمان : 5 يونيو 1967

في الصباح الباكر و أنا في طريقي إلى المدرسة، لاحظت أن حدثا هاما يقع أو هو على وشك الوقوع... المينة استيقظت أسرع من وقتها المعتاد و السكان في حالة استنفار قصوى.

كنت منذ أيام التقط السمع لما يقوله الكبار و سجلت اهتمامهم الزائد بالإذاعة و "بصوت العرب من القاهرة" على وجه الخصوص.

الحماس هو سيد الموقف : زغاريد هنا و هناك... هتافات... شعارات تتردد على أفواه المارة... ما الذي حرك سكان عاصمة ايكيدي فجأة و هم المعروفون باللامبالاة و "تزواز لخلاگ ؟

لم يكن ذلك بمناسبة استقبال وفد حكومي و لا حملة انتخابية... فما هو يا ترى؟ إنها الحرب التي اشتعلت في الشرق الأوسط ! العالم العربي يصحو و سيستعيد فلسطين السلبية.

كان يوما استثنائيا في المذرذره و كنا نحن، تلاميذ الابتدائية، أشد الناس حماسا... فقد شرح لنا "شيوخنا" ما يجري و قمنا على طريقتنا بالمساهمة في المجهود العربي الموحد، فأمطرنا قاعات الدراسة بالحجارة و تفرقنا في الشوارع مكررين : جمال... جمال ... جمال !

كل الكبار مشغولين بمتابعة الأنباء التي تتدفق أولا بأول عبر الإذاعة الوطنية و كانت تبث تقارير عن المعارك الدائرة و أناشيد حماسية و موسيقى عسكرية ...

مازلت أتذكر الشعارات التي كان المذيعون يرددونها عبر الأثير و كنت أظن أنهم يراسلون من ساحة الوغى... كانت أصواتهم جميلة و معبرة عن جسامة الموقف...أذكر منهم السيدين افال بابا (بالفرنسية) و دحنه حمود و المرحوم محمدن ولد أحمدو سالم (بالعربية).

لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص و اهتمام السكان بجبهة القتال : أخي الأكبر الحضرمي- أطال الله بقاءه - يضع مذيعا صغيرا على أذنه و يتفاعل مع الأنباء الواردة تفاعل من يتابع مباريات رياضية ساخنة...

الأخت المرحومة محجوبة تقف في منتصف الشارع الكبير صحبة جمع من نساء الحي و تشدو بصوتها الشجي من مقام "فاغو" في أعلى "آزاي" سمعته في حياتي :

في الجبن عار و في الأقدام مكرمة

و المرء بالجبن لا ينجو من القدر..."

سبعيني في أوج الحماس ينظف "خماسية" قد صدأت و طال عهده باستعمالها...

كان الرجال كلهم يتمنون لو طاروا بلا أجنحة لأخذ الثأر من جيش الاحتلال... و بعض الشباب يتوجهون إلى مكتب حاكم المقاطعة و يطلبون منه بإلحاح أن يرسلهم إلى جبهة القتال لمد يد العون لإخوانهم المصريين و السوريين و الأردنيين.

أمضى جنودنا المجهولون يومهم الأول و هم في الخطوط الأمامية، مستأنسين بما تنقله الإذاعة من بشائر و بما ينسجه الخيال من مُنٓٓى سرعان ما يعتبر مروجوها أنها حقيقة..

و شيئا فشيئا بدأ صوت البي بي سي في لندن يعلو على صوت العرب في القاهرة و جاء الرأي الآخر مبددا الحلم الجميل و مخلفا في المنازل و الشوارع شعورا بخيبة الأمل و سحبا ذاكنة من الحزن و الأسى.

و جاء الخبر اليقين : آمريكا تتدخل بقوة و العرب يعدون الخسائر : تدمير 70 - 80% من العتاد الحربي و 25000 قتيل و مئات الآلاف من الجرحى و إسرائيل تحتل قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء و الضفة الغربية -بما فيها القدس الشرقية- وهضبة الجولان...

ثم جاءت الطامة الكبرى : الرئيس جمال عبد الناصر يستقيل و يقترح لخلافته صديقه زكريا محي الدين.

و "انتبهت" المذرذره " بعدما زال الرحيق و أفاقت ليت أنها لا تفيق"...

أما الأمة العربية، فقد شُغلت ردحا من الزمن بقرار الأمم المتحدة رقم 242 و "قمة اللاءات الثلاثة" و "قمة الخرطوم" و "الأرض مقابل السلام" "و أسلو" إلى آخره من المهدءات...

و أخيرا، و بما أن الشعر ديوان العرب، فقد اتفقوا على تفعيل نصيحة ابراهيم ناجي في قصيدة الأطلال :

فتعلم كيف تنسى و تعلم كيف تمحو

و لن أنهي هذا المقال بمسحة تشاؤم و قد تفاءل شاعري المفضل، المرحوم نزار قباني في نهاية البائية التي يخاطب فيها تونس الخضراء :

فلربمـــا تجد العروبة نفسهــــا

و يضيئ في قلب الظلام شهاب

و لقد تطيـــر من العقــال حمامة

و مـــن العباءة تطلـــع الأعشاب