إعلانات

إلى بلاد "آيات الله"..

أربعاء, 03/06/2020 - 14:29

 

بخطوات قليلة، دخلت رحلة امتدت من نواكشوط دامت يوما وليلة....

هناك في مطار الدوحة حيث نزلت بعد محطتين مرهقتين، كانت الملامح الآسيوية طاغية في كل شيء تقريبا.

بدا لي ذلك مخالفا لما توقعته، وأنا أطأ جزيرة العرب، فقد كنت بيني وبين نفسي، أشحذ لساني، واستنفر كل مخزوني من لغة الضاد لمخاطبة أحفاد النابغة الذبياني وإمرئ القيس..

كانت الرطانة بلغة انغليزية كسيحة، طُُوعت للنطق الهندي بشكل واضح، تملأ الأذن، فيما توارت أي ملامح عربية تقريبا عن الأنظار.

قادتني الإرشادات إلى "الكونتوار" الخاص برحلتي، لأكمل إجراءات سفري، استعدادا للمغادرة نحو العاصمة الإيرانية طهران.

أول ما وقع عليه عيني في الموقع، عبارة "فرودكاه امام خميني" أي مطار الإمام الخميني، هكذا دون تعريف، ودون همزة القطع، وتقابلها ترجمة العبارة إلى اللغة الانغليزية.

كان ذلك أول ملمح من إيران، فالعبارة التي أغلب كلماتها عربية وكُتبت بالحرف العربي، أخذت بسرعة قسمات فارسية كاملة، فتخلصت من التعريف والهمزة.

رحمك الله يا أبا الأسود الدِؤلي.

وتلك قصة لم تبدأ اليوم طبعا، فتاريخ علاقة الفرس باللغة العربية، قديم ضارب في التاريخ، فعندما شرع المسلمون في تأسيس دولة الخلافة، أقام الخليفة الثاني عمر بن الخطاب دواوين الحكم على الطريقة الساسانية.

ثم تشبع الفرس بالإسلام، فكان منهم كبار المحدثين والفقهاء والأطباء، ويكفي أن سيبويه، ذي المكانة الرمزية في النحو العربي فارسي، من عمق إيران الحالية.

وقد قامت الدولة العباسية على أكتاف الفرس، وتصدروا طبقة المستشارين والوزراء في البلاط العباسي، ومنحوا الثقافة العربية نفسا جديدا من خلال حركة الترجمة الواسعة، وأسهموا في الحركة الثقافية والعلمية في المراكز الإسلامية الكبرى.

وإذا كانت شعوب قد اعتمدت الإسلام والعربية معا مع الفتح الإسلامي، فإن هناك شعوبا أخرى قبلت الدين الجديد، دون التخلي عن لغاتها، ومن هذه الشعوب الفرس.

تداعت هذه الملامح في ذهني، وأنا أنزل في مطار "امام خميني" بعد المغرب.

كان الممر مفتوحا نحو شرطة الجوازات، خاليا تقريبا من زحمة المسافرين المعهودة في أغلب المطارات.

بدا الموقع نظيفا ومتقشفا، فيما تكاد ترتفع الرايات السود، مذكرة بـ"مظلومية" آل البيت، التي هي إحدى أبرز الأدبيات السياسية في إيران الجمهورية.

ختمت جوازي، واندفعت خارجا، نحو طهران، التي ما زالت على بعد نحو ستين كيلومترا.

هذا المطار الذي بني بعد الإطاحة بنظام الشاه، حل محل مطار مهر آباد الذي كان مطار طهران الدولي، يمثل ملمحا من ملامح إيران الجمهورية التي غيرت كل ما ورثته عن العهد الشاهنشاهي.

ولم تتوقف عند هذا الحد، فقد سعت كذلك لنقل هذا التغيير نحو محيطها، بل ونحو باقي العالم.

وظهيرها في هذا التوجه، إلى جانب موقعها عند ممرات مائية استراتيجية كبرى بالنسبة للملاحة العالمية، ومواردها النفطية الضخمة، كونها أول دولة يحكمها رجال الدين الشيعة منذ أمد بعيد، فأغلب الدول الإسلامية الكبيرة في التاريخ، كانت سنية، وبالتالي فهي تمثل انتصارا لـ"مظلومية" آل البيت من المنظور الشيعي الكربلائي.

كانت مختلف هذه الأفكار تتوالى في رأسي، والسيارة تخترق بصعوبة المزيد من أحياء العاصمة طهران، التي بدت مكتظة تخنقها الزحمة عند كل تقاطع.

بدت مدينة كبيرة، تتباين أنماط المعمار فيها، فيما يطغى النمط الغربي الحديث، مقابل وجود محتشم للنمط الفارسي الخاص، وهي مدينة حديثة في أغلب أحيائها، التي بنيت منذ القرن الماضي، مع تصاعد أهميتها السياسية بسبب سعي آل بهلوي لتحجيم مكانة المدن القديمة ذات العمق التاريخي مثل اصفهان وتبريز وشيراز.

أما أحياؤها القديمة فنشأت حول مدينة الري أو "شهر ري" بالفارسية المذكورة في المصادر التاريخية، مقترنة في بعض الروايات بمنحها لعمر بن سعد، قائد آخر جيش واجه به الأمويون الإمام الحسين رضي الله عنه، قبل استشهاده بالعراق سنة 61 للهجرة.

وربما هذا ما يجعل مدينة الري اليوم، ضاحية مهملة على أطراف طهران، كأنها تتوارى من الناس من سوء ما اقتُرف بسببها.

بعد عبور طهران شمالا تقريبا، توقفت السيارة أمام شقق فندقية، ستكون مقر إقامتي لبضعة أيام، يشرف عليها ، كما سأعلم لاحقا، كردي عراقي، يعيش في إيران منذ الحرب العراقية الإيرانية.

ستكون مفاجأتي كبيرة حين اتصل بي هاتفيا، بعد أيام، ليقول لي بلهجة مشوبة بكثير من الاستعداد والود، بأنه سعيد لأن يعبر لي عن جاهزيته لخدمتي في كل وقت ما دمت موريتانيًا.

عبرت له عن امتناني العميق لهذه الجاهزية، ولو أني لم أفهم سر إشارته إلى جنسيتي، إلا أني لم أرد أن أمنح الموضوع أكثر من حجمه، فالرجل ربما يتعامل معي بفيض من المجاملات، دون خلفيات.

في اليوم الموالي وأنا أعود من مشوار، دخل معي في حديث بدا أنه أراده ممتدا ، فقد أصر على قبولي دعوته لتناول الشاي بمكتبه.

أدار بأدب الشاي، ثم قال لي كيف حال موريتانيا؟

قلت: الحمد لله بخير

قال لي الرجل: أنت ثاني موريتاني أراه عن قرب.

ثم واصل، دون أن أسأله، أما الأول فكان رئيسكم الأسبق، مختار ولد داداه.

بدأ يسرد ذكرياته عن أول رئيس لموريتانيا، أو الموريتاني الوحيد الذي عرف قبلي، خلال زيارته للنجف الأشرف أواسط السبعينات.

ثم تشعب بنا الحديث، قبل أن يقودنا إلى موضوع الخلاف بين السنة والشيعة، وهو موضوع حاضر هنا بقوة.

فالقادم إلى إيران سيُخيل إليه، أن الفتنة الكبرى ما زالت حية تسعى.

وستتراءى له الجيوش تتأهب لمعركة جديدة، صفين أو الجمل أوالنهروان، أو غيرها.

ستستعيد رغما عنه كل يوميات تلك الــ"فتنة التي طهر الله منها سيوفنا"، ولا يراد لنا اليوم، أن "نطهر منها ألسنتنا"، في خضم التوترات السياسية والمذهبية الفائرة في العالم الإسلامي.

هنا في هذه المنطقة، ستطارده الفتنة الكبرى، رغما عنه بكل تفاصيلها وحزنها وبكائياتها ومظلوميتها.

يقال، والعهدة على الصحافي العراقي الكبير محمد حسن البحراني، أنه في اليوم الذي انقلب فيه الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطائع، على سلفه الرئيس محمد خونا ولد هيدالة، سئل المتحدث باسم الخارجية الإيرانية عن الموقف من الانقلاب، فلم يزد أن قال، وهو الذي لم يجد بعدُ بالتأكيد، الوقت للتشاور مع رؤسائه حول الموقف الرسمي بهذا الشأن، إن ما حدث شأن داخلي، ولكن اسم الرجل الجديد، يقصد الرئيس معاوية، لا يُبشر بخير.

لقد استحضر الرجل، أجواء الفتنة الكبرى، فصاغ الموقف بسرعة، وفق منطق المواجهة و"الولاء والبراء" فانحاز تلقائيا لــ"علي" مفترض.

كانت أياما..