إعلانات

د. بدي ابنو: بيان حول مقتل المواطن الموريتاني عبّاس ديالو

اثنين, 01/06/2020 - 18:57

 

 

-1-

اطّلع الرأي العام الموريتاني في الأيام الأخيرة على مأساة مقتل المواطن عبّاس حمادي ديالو (خمس وثلاثين سنة، أب لـستة أطفال)، تغمّده الله برحمته الواسعة في جنات الفردوس الأعلى. ينتمي المرحوم عباّس ديالو إلى قرية "دبانو" التابعة لمقاطعة "امباني" (ولاية "البراكنة")، حيثُ أَطلقتْ عليه دورية عسكرية موريتانية النار مساء الخميس الماضي 28 مايو 2020 في ظروف ما تزال غامضة ولمْ تتوفّر عنها بعدُ للرأي العام إلّا رواية الطرف المسؤول عن القتل في شكلِ بيان صدرَ عن المؤسسّة العسكرية.  

 

-2-

تعازينا القلبية لذوي الفقيد رحمه الله تعالى ولجميع الأهل في مقاطعة "امباني" العظيمة وتضماننا الكامل معهم. فمأساتهم بداهةً مأساة الجميع.

 

-3-

هذه المأساة المؤلمة يَلزم قطعياً ولا محالة التحقيقُ النزيه بشأنها وتحديد المسؤوليات عنها. فالتحقيق الصارم النزيه هو دائما الفيصل. ومن البيِّن بذاته أنْ لا معنى للاكتفاء برواية أحد الطرفين أو إعطائها من حيث المبدأ مصداقية أكثر. فلا يَقبلُ ذلك شرعٌ ولا قانونٌ ولا عرْفٌ ولا أخلاق سماوية أو أرضية.

 

-4-

وفي العموم وبغضّ النظر عن القضية الحالية فإنّ التحقيق في مثل هذه القضايا هو مبدئياً ومصلحياً وبشكل دائم ضرورةُ اجتماعية وسياسية تلقائيا، وواجبٌ مركزي لا يقبل الاستثناءات بالنسبة لكلّ حريص من حيث المبدأ على الانصاف والعدل أو حريص من حيث المصلحة على السلم الأهلي والمدني.

فدون التحقيق في مثل هذه القضايا يفقد السيئون من أفراد الأجهزة الأمنية والعسكرية كلّ كابح ويشعرون أنهم فوق العقوبة وفوق المساءلة. فالمؤسسات الأمنية والعسكرية ككلّ مؤسسة بشرية فيها الخيرون وفيها السيئون ولكنّ سيئيها أخطر غالبًا من غيرهم من السيئين خارجها كما لاحظتْ ذلك كلّ الفلسفات السياسية قديماً وحديثاً لأن طبيعة عمل المؤسسات الأمنية والعسكرية تكفَل للسيئين من أفرادها وسائل لوجستية واعتبارية بالغة الخطورة إن استُعملتْ خارج القانون وخارج المساءلة والمتابعة القانونيتين الدائمتين.

 

-5-

ومعروفٌ في كلّ زمان وكلّ مكان أن أكثر الأشياء خطرًا على السلم الأهلي والمدني هو وجود أفرادٍ من المجتمع قد يشعرون لسبب أو لآخر أنّهم حين يرتكبون فعلاً ما يستحق التحقيق سيكونون فوق المساءلة أو فوق القانون أو فوق العقوبة، ويزيد الأمر خطرًا حين يتعلق الأمر بالقتل سواء افتُرض أن الأمر يتعلّق بالقتل العمد أو افتُرض أنّه يتعلق بقتل غير إرادي.

إنّ الخطرَ فعلاً يصل أقصاه حين يتعلّق الأمر بفعل القتل، فحين يمكن اعتباره فقط قتلاً خطأ بمجرد رواية صاحب الفعل أو مؤسّسته فما مصير الإنصاف والحقّ والعدل وما مصير التعايش؟!

فالتزكية المبدئية لمنطوق أو نيات صاحب القتل أيا يكن هو تشجيع لاستخدام العنف خارج القانون أي أنّها تشجيع على فسخ تعاقد التعايش السلمي الأهلي والمدني وذلك هو المقدمة البديهية للفتنة الصريحة أو الصامتة.

فهل يبقى للشرائع والقوانين والإجراءات العدلية معنى حين يمكن دون تحقيقٍ مستقلٍّ نزيهٍ التصديقُ المبدئي الأحادي الطرف برواية مرتكب فعلٍ بهذا الحجم مهما كان فحوى روايته؟

 

-6-   

بديهي أن بداية الانزلاق في مثل هذه السياقات هي تبرير مأساة أو ما يشتبه في أنه جريمة بمأساة أو مآسي أخرى أو ما يشتبه أنّه جرائم وقعتْ في البلد أو بلدان أخرى. كل جريمه تستحقّ الإدانة والعقوبة وكل اشتباه في الجريمة يلزمه تحقيق جدّي وصارم وعادل.

 

 

-7-

إنّ من يدْعون إلى الفتنة همْ من يبحثون عن ذريعة ما للامتناع عن عدم التحقيق في مأساة كهذه أيا يكن المسؤول عنها. وحدَه مرة أخرى التحقيقُ الصارم المستقلّ العادل هو الكفيل بتحديد المسؤوليات.

فالقانون يُفترض فيه العموم والنظر إلى المواطن بصفته مواطناً بغض النظر عن أي خصوصية. ومؤسسات الدولة يُفترض فيها أنها ليس لها أي انتماء إلا للدولة بما هي كذلك أي للشعب ككلّ.

 

-8-

عدم التحقيق في حادثة مثل هذه جريمة والدفاع عن الجريمة ليس رأياً وإنما جريمة.   

 

-9-

إنَّ الذي يتحدّث عن أنّ التحقيق في قضية قتْل مواطن أيا يكن هو مدعاة للفتنة هو نفسه في الحقيقة الذي يدعو إلى الفتنة حتى لو لمْ يع ذلك، لأنه من جهة لا ينظر إلى الأشياء بمنطق الدولة والمواطنة ولا بمنطق الحقّ والعدل وإنما بمنطق المضمرات البدائية. ولأنه من جهة ثانية يحْرص على أن يكون منْ همْ في موقع القوة من حيث إنهم محسوبون على مؤسسة من مؤسسات الدولة هم من تُصدّق روايتهم دون تمحيص أو تحقيق ومراجعة بل وحتى دون أن يتمكن الرأي العام من الاستماع إلى رواية ذوي الضحية.

 

-10-

كلّ من يدافع عن التجاوزات عليه – أخلاقيا ومنطقياً - أن يذكّر نفسه بأنه قد يجد نفسَه يوما ضحية للتجاوزات. عليه أن يسأل نفسه كيف سيكون حديثه لو كان الأمر يتعلّق لا قدّر الله بفردٍ من أفراد عائلته؟ هل كان سيسمّي "هيبة" الدولة عكْسَ ما تعنيه؟ وهل كان سيدافع عن عنصرٍ من عناصر إحدى المؤسسات العمومية لو كان هذا العنصر قد داس على القانون واعتدى عليه هو أو على فردِ من أفراد عائلته؟ كيف سيكون موقفه لو داستْ عناصر عسكرية أو مدنية على هيبة الدولة الحقيقية أي هيبة الشعب وقانونه واطلقتْ - لا قدّر الله - النار بازدراء على فردٍ من أفراد عائلته وهل سيبقى حماسه كما هو؟

 

-11-

كلّ من يدعو إلى منْح عناصر المؤسسات العسكرية أو المدنية توقيعاً على بياض وإلى تصديقِ روايتها أحادياً عليه - أخلاقياً ومنطقيا – أن يقفَ لحظة مراجعة ولو سريعة لضميره وأن يسأل نفسَه ألم تحدثْ يوما بحضوره وربما له هو نفسه إهانات أو تجاوزات للقانون ارتكبها عناصر من مؤسّسة من هذه المؤسسات التي يحاول أن يوهم نفسه الآن بتنزيهها أو تنزيه ما تنقله عن أحداث هي طرف فيها؟ وبأي معنى يمكن تصديق الرواية الأحادية لطرف أو جعل الخصم حكماُ؟

هل سيتحدّث من عانى من تجاوزات أي مؤسسة وإهاناتها عن قدسيتها ورمزيتها وتزكيتها وهي تعتدي على فرد من الشعب، الشعب الذي يُفترض أنه هو من سمح بوجودها ومنحها بداهةً أجورَها وما لديها من إمكانيات لوجستية وصلاحيات إجرائية لحماية القانون لا القفز عليه ؟ فكلّ مؤسسة رسمية تفقد تلقائياً مشروعيتها ومعنى وجودها كلياً حين تقفز على العقد القانوني الذي به وله وُجدت.

 

-12-

كيف سيكون شعور من يطالب بعدم التحقيق في هذه الحادثة لو اعتدى عليه أو على فرد من أفراد عائلته وبالتالي على القانون عناصرُ من إحدى المؤسسات العمومية ثم زادوا إمعاناً في الدوس على القانون أنْ استغلوا موقع مؤسّستهم لفرض روايتهم على الرأي العام وضغطوا من أجل الامتناع عن التحقيق بلْ حتى عن سماع رواية ذوي الضحية ؟    

وكيف سيكون شعوره بالظلم والحنق؟ وكيف ستكون نظرته للذين يروجون دون أدنى تثبّت ويزكون رواية طرف واحد لأن ذلك الطرف في موقع القوة أو لأن الحماس البدائي الأهوج أو المسبقات اللاعقلانية تدفعهم؟

 

وللأسف فاحتقار المواطن من حيث هو حصراً مواطن وازدراء آدميته وكرامته الإنسانية هما أمران متجذران لدى معظم أفراد المؤسسات الرسمية وغير الرسمية الموريتانية ومنغرسان في قاع الذهنية التبريرية المرتبطة بهذه المؤسسات.

 

 

-13-

وبالنسبة للقضية التي بيْن أيدينا فقد قدّم الجيش الموريتاني بيانا توضيحياً وهذا إجراء يستحق فعلًا الإشادة اعتبارا لظروف الأزمة الحالية واعتباراً للسياق الخاص لأنه بداهةً يكشف عن توجه جديد لدى المؤسسة العسكرية ولدى مؤسسات الدولة بشكل عام وعن شعورٍ بالمسؤولية تجاه الرأي العام في حادثة كهذه. ولكن الإشادة بهذه الخطوة لا يمكن أن تحجب الأهمّ وهو ضرورة عدم تصديق رواية أحد الطرفين بتوقيع على بياض، أعني ضرورة عدم تزكيتها المبدئية دون تحقيق عادل وصارم.

 

-14-

إن المؤسسة العسكرية من مصلحتها هي نفسها المطالبة بهذا التحقيق حتى تتبين لها وللرأي العام وللعدالة الحقيقة، كل الحقيقة ولا شيء سوى الحقيقة. فإما أن يُصدّقَ التحقيقً رواية صاحب أو أصحاب الفعل وهو بداهة أمرُ في صالح المؤسسة العسكرية فكما يقال بالعربية الحسانية "اللي ما كال شي ما خاف شي".

وإمّا أن يكشف عن مسؤولية فردٍ أو أفراد من المؤسسة العسكرية عن جرم في مستوى ما من المستويات وهو أيضا أمرٌ في صالح المؤسسة العسكرية حتّى تتمكن من تحديد أولئك الأفراد الذين يسيئون لها ولسمعتها وحتى تستطيع معاقبتهم. وغني عن القول إن أي مؤسسة لا يمكن إلا أن تخرج مرفوعة الرأس من كل قضية تُثبتُ فيها أنها حريصة على تنفيذ الحق والقانون تجاه المنتسبين إليها قبْلَ غيرهم وأن من يسيئون التصرف من أفرادها لا يمثلونها وإنما يمثلون فقط أنفسهم.

 

-15-

لا منّة لمؤسسة عسكرية ولا مدنية على الشعب. فالشعب هو الدولة أصالةً وهيبة الدولة تعني هيبة الشعب أي هيبة المواطنين كلّ المواطنين. وكلّ مؤسسات الدولة هي الممتنّة للشعب وأقصى شرعيتها أن تمثّلَ جزءً من مهام الدولة ـ أي جزءاً من مهامّ الشعب بتكليف منه وبإمكانياته المالية رغم وضعيته الاقتصادية الصعبة وبالصلاحيات القانونية التفويضية باسم الشعب. كلّ مؤسسات الدولة تستمدّ بداهةً مشروعيةً وجودها وعملها من الشعب ومن القانون الذي هو نفسه يصدر في شرعيته إن كان شرعيًا عن الشعب، أي بصفة القانون هو ما اتفق عليه الشعب وصوت عليه بشكل مباشر (الدستور باعتباره القانون المركزي) أو غير مباشر (القوانين الأخرى المنبثقة عنه والتي يصوت عليها من يُـفتَرَض أنّهم ممثلو الشعب). فالمؤسسات العسكرية في أحسن حالاتها أي حين تكون شرعيةً هي موجودة بإرادة الشعب وهو الذي كلّفها ووظفها ومنحها من ماله المحدود رواتب ووفّرَ لها منه ما لديها من وسائل وعتادٍ باعتبار أفرادها أجراء عنده تخدمه وفْق عقود عمل تربطه بها بصيغ محدّدة في القانون تُلزم أفراد المؤسسات بالتزام القانون والسهر على تنفيذه وهم يفقدون شرعيتهم كـلّيًا حين يتجاوزون القانون، أيْ العقد الذي يربطهم بالشعب والذي يربط أفراد الشعب بعضهم ببعض. ف"العقد شريعة المتعاقدين" بمقتضيات لا حْصرَ لها أولها الآية الكريمة "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود".

 

-16 –

إن حاضر الجماعات البشرية وماضيها يكفيان لإثبات المخاطر.

فالتعايش البشري بكامله في كلّ مكان وكلّ زمان مبني برمّته على مبدأ المقاضاة التي تستلزم من بين ما تستلزم بداهةً عدمَ الاكتفاء برواية طرفٍ فردي أو اعتباري أيًّا يكنْ ومهما يكن، كما تستلزم مبدأ عقوبة من يَثبت عليه الجرم أيَّا يكن ومهما يكن. فوجود طرفٍ لا يطاله التحقيق أو لا تطاله العقوبة يمثّلُ أكبرَ تهديدٍ للتعايش وبالتالي أكبر تهديدٍ للسلم الأهلي والمدني.

والاجتماع البشري، بمجموع شرائعه السماوية والأرضية الصريحة والضمنية، مبني في صلبه على أن القتل هو أقصى الجرائم وأعظمها وأنه تبعًا لذلك لا يمكن تمييزه باعتباره قتْل عمد أو قتْل خطأ إلا بعد التحقّق وفق الإجراءات المعروفة لذلك. وحين يتمّ تجاوز تلك الأبجديات الجذْعية فقد تمَّ القفز على أهم مرتكزات مشروعية التعايش البشري وقوّتها، أي تمّ القفز عليها وتجاوزها نحو مبدأ القوة الفجّة والعصابة أي بعيارة ثانية نحو الاحتراب الفعلي أو الصريح ومآسيهما المعروفة.

 

-17-

ألا نرى ما يحدث عند غيرنا ؟ ألا نتأمّل ما عشناه في منطقتنا في سلسلة من المآسي المتتالية؟ هل لنا ذاكرة جماعية ولو في الحدّ الأدنى؟ ألا نتذكّر إلى أي كوارث قاد سلوك بعض أفراد المؤسسات الرسمية المدنية والعسكرية في الماضي القريب وغير القريب؟ كوارث ما زال الشعب ككلّ يعيش تداعياتها المأساوية ويدفع ثمنها الباهظ وستسمرّ أجياله القادمة لفترة طويلة وهي تواجه تلك التداعيات وتدفع ذلك الثمن. كيف انهار العقل العمومي إلى هذه الدرجة كأن هنالك رغبة جماعية في الانتحار؟     

كامبريدج، فاتح يونيو 2020

الإمضاء بدي ابنو