إعلانات

الحرية الدينية.. وواجب احترام رموز الدين

جمعة, 17/01/2020 - 02:40

القاضي / سيدي محمد شينة

رئيس محكمة جرائم الاسترقاق في نواكشوط الجنوبية

 

خلافا لما قد يروج له البعض؛ يرتبط الدين إلى حد بعيد - بحكم الاستقراء التاريخي من خلال روافده الروحية والفكرية والفلسفية وغيرها - بحقوق الناس، أو ما يطلق عليه في الاصطلاح الحديث بـ"حقوق الإنسان" ..سواء تعلق الأمر بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أو الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.. والميثاق العربي لحقوق الإنسان.. أو الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان.. والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب.. هذه الآليات القانونية الدولية وما تتضمن من المقاربات، على اختلاف مرتكزاتها وأسسها وخلفياتها الدينية والفلسفية، تمجد احترام المعتقد الديني (الحرية الدينية) إلى درجة أنها تقيد أحيانا وفق نفس النصوص القانونية.. حقوقا مهمة مثل "حرية التعبير" ..إذا ما توافرت شروط معينة وقيود قانونية في نازلة ما أو نوازل منشورة أمام القضاء ...

 

أولا / الميثاق الإفريقي وتمجيد القيم والتقاليد العريقة

والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان وواجبات الشعوب، الذي يأتي في مقدمة الآليات القانونية الملزمة للقاضي الإفريقي وكذلك الحال بالنسبة للقاضي الوطني الموريتاني المختص.. قاضي الحريات.. والذي يتملك بهذه المناسبة "صلاحية تقيد الحرية" وتوسيع نطاق مجالها، وفق صلاحياته في "تفسير نصوص‘" الآلية وغيرها.. لا يفترض فقط احترام تطبيق التعاليم الدين الإسلامي في سياق تكريس احترام "الحرية الدينية" (المادة: 8 من الميثاق الإفريقي).. و إنما يتعدى ذلك أيضا وفق ديباجة الميثاق إلى فرض حماية بشكل لافت وصريح لـ"الخصوصيات الثقافية الإفريقية" وإلى "ضرورة مراعاة القيم الإفريقية" "التقليدية الأصيلة".

 

وعليه فإن النتيجة القانونية من ممارسة حرية التعبير - هنا وهناك - مهما كانت المقاربات الفكرية.. ستعتبر دخيلة ومتحررة وعديمة الأثر القانوني ما لم تحافظ علي المرتكزات التي تقوم عليها المقاربة الإفريقية في مجال حقوق الإنسان.. والتي تمجد الدين ورجاله من أئمة وشيوخ و طلبة العلم تحت الشجرة arbre apalabre.. وتحت الخيمة أو داخل المحظرة وغيرها من دور ومداس تقليدية لطلب ونشر العلوم والمعارف الدينية المختلفة بشكل تقليدي.. لذا تعين احترام هذه الرموز والدلالات الثقافية الإفريقية، الخاصة بشعوب القارة الإفريقية على اختلاف معتقداتهم.. والتي من بين شعوبها من يمجد ديانة وثنية بالإضافة لتمجيد شعوب القارة للديانات السماوية كالإسلام والمسيحية..

 

وعليه فإنه على القضاء والقائمين عليه من مستويات مختلفة.. وكذلك من خلال دور الحقوقيين والمدافعين عن حقوق الإنسان داخل أو خارج هيئات المجتمع المدني.. يتوجب على الجميع في هذا المقام مراعاة ضمان تكريس احترام ممارسة هذه الشعائر.. من منطلق المادة: 8 من الميثاق الإفريقي حماية "الحرية الدينية".. داخل منظومتنا القضائية.. وبشكل يضمن أيضا مراعاة ما ورد في ديباجة نفس الميثاق، من "ضرورة مراعاة الخصوصيات الإفريقية" و"احترام القيم الإفريقية التقليدية الأصيلة".

 

ولعل هذا ما دفع بالقاضي إسحاق گيما، الرئيس الأسبق للجنة الإفريقية لحقوق الإنسان، منذ عشرين سنة.. إلى القول في محاضرة له (كان لنا الشرف المشاركة فيها)، حول "حماية الحرية الدينية في النظام القضائي الإفريقي لحقوق الإنسان"، خلال دورة المعهد الدولي لحقوق الإنسان بستراسبورغ سنة 1999، والتي كان موضوع دورتها عن "حماية الحرية الدينية في النظم القضائية لحقوق الإنسان" .. إلى القول "بحق" إن "النظام القضائي الإفريقي في إطار احترامه في تطبيق محتوى الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب فهو خاصة في مجال الحرية الدينية فإنه يضمن الحقوق لجميع الأقليات الدينية وللجميع على حد السواء في إطار احترام الخصوصيات التقليدية الإفريقية الأصيلة وأن هذه الخصوصيات في القارة الإفريقية، لا تعترف مثلا بحقوق تحميها اليوم بعض نظم حماية حقوق الإنسان كحقوق المثليين مثلا..".

 

ثانيا / أوروبا بين الحرية الدينية.. والحرب غير المعلنة ضد الدين

إذا كانت بالأمس الخلفية الدينية اليهودية / النصرانية لحقوق الإنسان في أوروبا قد دفعت بالمحكمة الاوروبية لحقوق الإنسان إلى إعلان "حرب غير معلن عنها" ضد الإسلام.. بخصوص موقف هذه المحكمة من مسألة "ارتداء الحجاب الإسلامي"، .. بالنظر إلي سلسلة من القرارات في هذ ا الصدد.. ونتيجة أيضا لاعتبارات وقيم تفضيلية جميعها.. لا تمت صلة في جوهرها وأساسها القانوني إلى الموضوعية وتعكس الرغبة بالدفع بدورها إلى تكريس "الخصوصية الأوروبية في مسألة منع ارتداء الحجاب في الأماكن العمومية" الأوروبية.. بحجة تعارض هذا الاستخدام و"طبيعة القيم العلمانية والقواعد الديموقراطية للمجتمعات الأوروبية المتمدنة" ..وليس غريبا أن جميع قرارات المحكمة الأعلي في الهرم القضاء الأوروبي لا تتوارى في أحكامها في التأكيد بقوة على هذا الموقف في مختلف الحيثيات الدالة ..عندما ينص قاضي المحكمة قبل منطوق قراره "...بأن استخدام أو ارتداء الحجاب يتعارض وطبيعة النظم الديمقراطية وطبيعة المجتمعات المتقدمة وعليه فيحظر ارتداءه في الأماكن (... ) وتكمن الحرب غير المعلن عنها من قبل القاضي في الربط بين الحجاب على الرغم من تكريس حماية ارتدائه باسم الحرية الدينية وطبيعة النظم الأوروبية الديمقراطية ومجتمعاتها المتمدنة.. فيما يكون الحرص على حماية وممارسة هذا الحق تعني "الانتماء إلى الشمولية السياسية وإلى المجتمعات المتخلفة".

 

وإذا كنا هنا أمام تفسير معين للمادة: 8 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان بخصوص حماية الحرية الدينية.. فإن القرار المبدئي الأخير للمحكمة الأوربية.. إذا كان حسب البعض يعتبر تحولا في الموقف.. إلا أننا نعتبره تأكيد لما تقدم..).

 

ثالثا / الحرية الدينية.. والدروس

إذا اقتصر حديثنا على النظامين الإفريقي والأوروبي في مجال حقوق الإنسان في مسألة تقرير وحماية حرية المعتقد.. فمرد ذلك تأثير النظام الأخير على الأول وبشكل خاص لدى الباحثين والحقوقيين.. إلى درجة يتعين معه الإشارة إلى ما يلي:

- ينبغي التركيز والتقيد بالمنظومة الإفريقية من قبل الجهات القضائية المختصة قبل استنساخ النظم القضائية الأخرى. حتي لا نقع أحيانا في مغالطات غير مبررة؛

- ما لم يتم تحديد موقف واضح من الآليات المكرسة لحقوق الإنسان في بلد ما وعلى جميع سكانه والذين هم حسب الإحصائيات الرسمية جميعهم مسلمون مثل موريتانيا وما يتطلب ذلك من موقف رسمي واضح في هذا الصدد وكذلك من قبل العلماء ورجال الدين بخصوص هذه الآليات يظل دور القضاء وفق مقتضيات دولة القانون صاحب الكلمة الفصل الأخيرة؛

- يتعين علي المحكمة العليا في بلد كالجمهورية الإسلامية الموريتانية في هذا الصدد أن تشق بقراراتها اجتهادا ثاقبا في أساليب التفسير وفي وضع خطوط حمراء لاحترام الثوابت الدينية وغيرها في حدود مراعاة المنظومة القضائية الوطنية بكل ما يتطلب العمل من صرامة ومرونة..،

 

{ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من يحي عن بينة وإن الله لسميع عليم} صدق الله العظيم سورة الأنفال.