إعلانات

هنا راديو رواندا!

أحد, 15/09/2019 - 23:56

ياسين إعمران

 

تعرف مواقع التواصل الاجتماعي في الجزائر جدلًا واسعًا منذ آخر خرجة إعلامية رسمية لمدير ديوان رئيس الجمهورية، معلنًا مسودة تعديل الدستور التي سترفع للمجلس الدستوري لإبداء الرأي حولها، ومن ثم تمريرها كمشروع قانون من قبل الحكومة على البرلمان الجزائري للتصويت عليه، ويدول الحديث في الجزائر حول ترسيم اللغة الأمازيغية لغة رسمية ودسترتها في التعديل الجديد.

المخيف في الموضوع أن هناك أصواتًا عنصرية كثيرة تتعالى على مواقع التواصل الاجتماعي تنال سواء من الأمازيغية كعرق ولغة وكذلك العربية، ومع أن هذا الجدل هو في الحقيقة مجرد إلهاء من النظام للشعب عن حقيقة ما يكابده من معاناة اجتماعية وغلاء في المعيشة، وتغييب للحوار الحقيقي الذي ينبغي أن يكون حول شرعية النظام المفقودة؛ فنحن نسجل تراجعًا رهيبًا لروح المواطنة وتبددًا لمظاهر المجتمع المتحضر أمام عودة الروح العشائرية والعرقية، فتساءلت هل يمكن لمثل هذه المنابر الافتراضية أن تؤدي نفس الدور الذي لعبته إذاعة الألف تلّة الرواندية (RTLM) في التمهيد والتحريض لواحدة من أبشع المجازر البشرية في التاريخ الحديث، التي راح ضحيتها مليون إنسان خاصة من أقلية التوتسي؟!

لماذا وكيف يستسلم الإنسان لخطاب الكراهية، وكيف يسيطر عليه حتى يجعله مجرّد آلة معدومة الروح والعقل في أيدي محرّضيه؟! هل لهامش الحرية الواسع الذي توفره وسائل التواصل الاجتماعي لمستخدميها في التعبير عن أفكارهم ومعتقداتهم دور في إخراج المسكوت عنه بيننا؟ أيا كانت الإجابات فالأمر جلل..

كان سكان رواندا قبل الاستعمار مقسمين إلى توتسي وهوت ووتوا، ولم يكن التقسيم على أساس عرقي حينه لأن هذه العرقيات ذابت بالتزاوج، فكانت العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الرواندي طبيعية جدا، لكن كان يمكن التمييز من خلال النشاط الاقتصادي؛ فكان الهوتو يشتغلون بالزراعة، والتوتسي برعي الأبقار، بينما أقلية توا يعملون بالصيد والمحاصيل البرية.

لقد كان من يمتلك أكثر من 10 بقرات يعتبر أنه من التوتسي، وكان من يملك أقل من ذلك يطلق عليه هوتو، ومن لا يملك شيئا يطلق عليه توا، فلم يكن للأمر علاقة قوية بالعرق بقدر ما كان متعلقا بالتميز الاقتصادي لفئة عن أخرى، وكان ما يجمع الروانديين قديما هو إجلالهم وتقديسهم للملك الذي لم يكن مُصنّفا عندهم، وكان ملكا للجميع.

حين استعمر البلجيك رواندا تعاملوا مع النظام الاجتماعي الذي وجدوه، وهو نظام القبيلة التي كان بيدها زمام الأمر، فبدأ المستعمر البلجيكي في بثّ روح الكراهية بين أبناء البلد الواحد، فكانوا يحرضون الهوتو على التوتسي كأي مستعمر يريد أن يسود من خلال السياسة التفريقية.

عمدت السلطات البلجيكية الاستعمارية إلى تحديد علامات معينة غبية للتفرقة بين أبناء رواندا؛ فذوو الأنف الطويل كانوا يعتبرون من التوتسي، وذوو الأنف القصير الضخم يعتبرون من الهوتو، وسكان الغابات والصيادون توا، وعلى هذا الأساس الزائف تم إصدار بطاقات هوية عرقية، ثم راحوا يخلقون في صراع يوهم التوتسي والهوتو أنهم مختلفون رغم أنهم كانوا يتحدثون لغة واحدة، ويأكلون طعامًا واحدًا، ويدينون بنفس الديانات، وبيولوجيا لم يكن في المقدور التمييز بين التوتسي والهوتو، وقد كرست الكنيسة الكاثوليكية هذه التفرقة عبر أولى صحيفاتها “كيناماتيكا” التي تعتبر أول صحيفة تصدر في رواندا عام 1933، وأول عبارة استخدمتها في مقالاتها لوصف الهوتو كانت “الشعب الوضيع”، بينما وصفت التوتسي بالإقطاعيين، وصورتهم على أنهم غير روانديين حقيقيين وإنما غزاة جاؤوا إلى رواندا من خلال الغزو، وأن هذه السلالة حكمت ما يقرب أربعمائة عام، وكانوا يصفونهم بأنهم ليسوا أفارقة فأصولهم عربية وإسرائيلية تكريسًا لأجنبيتهم.

أول رئيس رواندي بعد الاستقلال هو “كايباندا”، عمل صحفيا في جريدة “كيناماتيكا” وكان نتاج تنشئة كنسية عنصرية، ودعا خلال فترة حكمه إلى محاربة التوتسي بكل شراسة، وأيدت صحيفة  “كيناماتيكا” السلطة الحاكمة. بدأت إذاعة رواندا في البث عام 1964 وبحكم أن غالبية الروانديين آنذاك كانوا أمّيين لا يستطيعون قراءة الصحف، كان الاستماع الدائم للإذاعة أسهل الطرق، وكانت البطاريات تنوب عن الكهرباء في القرى، وقد ساعدت اللغة الواحدة التي كان يتحدث بها الروانديون على ترويج خطاب الكراهية!

فسكان القرى يصدقون كل ما يذاع ويعتبرونه أوامرَ، وكان التحجج بأن ذلك تمت إذاعته عبر أثير راديو رواندا بمثابة ختم الحقيقة المطلقة! كانت الإذاعة في البداية تبث الخطابات السياسية، والأغاني التي تمجد وتمدح الهوتو وتصفهم بالبطولة وحدهم وبأنهم ثوار على التوتسي. البروباغوندا التي كانت متوفرة آنذاك والمتمثلة في صحيفة “كيناماتيكا” وراديو رواندا بذلت جهدًا كبيرًا للتعبئة العرقية والتحريض على الكراهية بين أبناء الوطن الواحد! بقيت رواندا تعرف نفس السياسة الداخلية العنصرية ضد أقلية التوتسي حتى بعد الانقلاب العسكري والإطاحة بكايباندا، أعلنت السلطة الجديدة أن الهوتو يمثلون نسبة 89 بالمائة من الشعب الرواندي، والتوتسي 09 بالمائة، ولذلك عليهم أن لا يتعدوا نسبة 5 بالمائة في العمل في كل الوظائف. وفي عام 1990 طرد الرئيس الأوغندي ميلتون أوبوتي اللاجئين التوتسي من بلاده بعد تأييدهم لخصمه أمين دادا، وتم حجزهم في الغابات الحدودية بين أوغندا ورواندا، وقيل لهم.. مكانكم هنا! أنتم لن تدخلوا رواندا، فكان الحل هو العودة بالقوّة!

فرنسا وراء الستار..

تشكلت الجبهة الوطنية المسلحة التي هاجمت رواندا في الفاتح من أكتوبر عام 1990، استغلت الإذاعة الحدث لإظهار أن التوتسي أعداء الدولة تجمعوا من مختلف البلدان خاصة أوغندا وهاجموا رواندا وهم لا يريدون الخير لسكانها، كانت الجبهة تهدف لإزالة التمييز العرقي ضد أقلية التوتسي، وإلغاء نظام بطاقات الهوية العرقية والتفرقة الاقتصادية والسياسية المفروضة عليهم.

طلبت الحكومة الرواندية مساعدات من بلجيكا وفرنسا، وأيدتها كذلك دولة زائير بقوات الحرس الرئاسي، لكن أكبر الدول الغربية الداعمة كانت فرنسا التي قدمت مساعدات عسكرية ومادية كبيرة، واصفة إياها بأنها مواجهة عدوان من بلد يتحدث الإنجليزية، وساهمت الطائرات الفرنسية بعد تراجع قوات الجبهة الوطنية المتمردة في كشف مواقعهم، ما ساعد القوات الرواندية على قتلهم. وحدثت حرب عصابات كبيرة في العاصمة كيغالي، ما أدّى إلى ارتكاب مجازر كبيرة في حق التوتسي.

بقيت حرب العصابات بين الطرفين حتى عام 1993 دون أن يحقق طرفٌ انتصارًا على آخر، في هذه الأثناء استعمل النظام الرواندي الإذاعة وسيلة لبث خطاب تحريضي ضد التوتسي، لم يكن يُشترط تكوين الصحفيين والمذيعين العاملين براديو الرواندا بقدر ما كان يهم أن يبثوا خطاب الكراهية العرقية.

ما بين عام 1991 و1993 عرفت رواندا تعددية إعلامية تحت ضغط من الرئيس الفرنسي ميتيران الذي دعا النظام الرواندي لإنهاء حكم الحزب الواحد، فعرفت رواندا فوضى إعلامية غير مسبوقة، وكانت كلها دعائية للنظام، فكانت الجرائد توزّع مجانًا على غير القادرين على اقتنائها وفي القرى كذلك، كل شيء كان مباحًا في القطاع الخاص، لم يكن لدى العامة من الشعب الكثير من الأموال، فتمويل مؤسسة إعلامية يحتاج ثراء كبيرًا، والأثرياء كانوا إما سياسيين أو مقربين من سياسيين، فما يقرره الساسة يأمرون به وسائل الإعلام التي يملكونها، واستطاعوا أن يشتروا ذمم صحفيين كان مشهودًا لهم بالكفاءة، قام حسن إينجيزي، أحد أكبر الوجوه الإعلامية آنذاك عنصرية، والذي حوكم فيما بعد في الجنائية الدولية وتمت معاقبته بالسجن المؤبد؛ بصياغة ما أسماه بالوصايا العشر للهوتو في مجلة عنصرية تدعى “كانغورا”، وفيها تماوه كبير مع الوصايا العشر الكاثوليكية التي تلقى تقديسًا كبيرًا من الروانديين الكاثوليك، وعلى الهوتو الصالح أن يلتزم بها.

وفيها أنه لا ينبغي أن تتاجر أو تتزوج أو تعاشر التوتسي، وكانت هذه الوصايا تذاع من خلال راديو رواندا، كانت الصحف تنشر رسومًا للتوتسي في شكل رؤوس بشرية على أجساد ثعابين في تصوير إلى أن قتل الثعبان ليس جريمة! وأخرى تصور آلات الزراعة بحكم أن نشاط أغلبية الروانديين زراعي، في رمزية إلى الوسائل التي يمكن للهوتو استعمالها في الإبادة، وأنه ما من هوتو إلا ويملك منجلًا أو فأسًا أو سيفًا لقطع أعراف النخل والأشجار، ما يعني أنه لا عذر له في عدم المشاركة في إنهاء الوجود التوتسي. واصل حسن إنجيزي وغيره بث خطاب الكراهية من خلال الجرائد والمقالات، وما ساعده على ذلك أنه كان يملك أسلوبًا أدبيًا بليغًا!

إذاعة الألف تلّة RTLM.. تلال الموت!

بدأت هذه الإذاعة في جلب المستمعين من خلال برامجها الخفيفة، وما كانت تبثه من موسيقى جميلة، والأغاني الحديثة، والبرامج الكوميدية التي تستميل الجمهور. كان أسلوبها في التقديم ممتعًا استقطابًا منها لأكبر عدد ممكن من المستمعين، عكس إذاعة رواندا التي انحصر عدد متابعيها. كل ذلك كان تمهيدًا لإحدى أكثر المجازر والإبادات الجماعية كارثية في التاريخ البشري.

قدمت إذاعة الألف تلّة (وهذا ما تعنيه تسمية رواندا) نفسها على أنها الحامية لحقوق الأغلبية والمدافعة عنهم من الخطر الخارجي. عام 1993 وفي عزّ الأزمة السياسية التي كانت تعصف برواندا تم التوصل إلى اتفاق أروشا الشهير، والذي يقضي بإدماج عناصر الجبهة الوطنية في الجيش الرواندي إنهاءً للحرب، رفضت الأغلبية الحاكمة هذا الاتفاق ناظرة إليه على أنه يمنح امتيازات كبيرة لهؤلاء المتمردين أعداء الوطن، بالنظر لما يمثله هؤلاء من أقلية أضحت منبوذة تدعى التوتسي.

كان الإعلامي العنصري حسن إنجيزي يقول آنذاك إنه إذا قبل الرئيس هذه الاتفاقية فالأفضل له أن يترك السلطة، لأنه بذلك لم يعد رئيسًا للأغلبية بل لم يعد من الهوتو! أذاعت RTLM في بداية أبريل من عام 1994 أن شيئًا سيحدث في البلاد وسيستمر لأيام، ليتم إسقاط الطائرة التي كانت تقل الرئيس الرواندي هابياريمانا بفعل قذيفة بالقرب من العاصمة كيغالي، مقتل الرئيس الرواندي كان إيذانا بانفجار بركان الجحيم! كانت إذاعة الألف تلة أول من أذاع الخبر، وحرضت الناس على حمل السكاكين والمناجل للقضاء على التوتسي أعداء الوطن!

بدأت الميليشيات الشعبية من الهوتو في التشكل، وانطلقت مجازر رهيبة في ربوع البلاد في حق التوتسي. كانت هذه الجماعات الإجرامية تهدد بالقتل كل من لم يلتحق بها من الهوتو، أصبح الفرد الهوتو يقتل جاره التوتسي رغم أنه كانت تجمعه به علاقة طيبة، لكن لا لشيء إلا لأن الإذاعة أمرته بذلك! الكثير ممن شاركوا في الإبادة صرحوا بعد ندمهم أنهم لم يكونوا يعرفون لماذا أصبحوا فجأة وحوشًا بشرية! في تلك الفترة المناخية الصعبة في رواندا من عام 1994 حيث تتهاطل الأمطار بشكل كثيف أعاق الناس عن الهروب والاختباء، حدثت مجازر مريعة راح ضحيتها خلال مائة يوم فقط مليون إنسان (800.000 حسب إحصائية الأمم المتحدة).

كانت تلك الإبادة محاولة لاستئصال جذري للعرق التوتسي في رواندا، لم يفرق القاتلون بين الشيخ الكبير والطفل الصغير ولا بين النساء والرجال، إنهم في الحقيقة لم يكونوا يقتلون ذوات أولئك الأشخاص بل أرادوا قتل الهوية ذاتها! كانت إذاعة الألف تلة تواصل قيادة الإبادة الجماعية من خلال الأغاني التي كانت تبثها، والتي كانت تحرض الميليشيات على مواصلة إبادتهم للتوتسي واصفة إياهم بالصراصير، كان المذيع يغني: “دعونا نغنِّ.. دعونا نفرح أيها الأصدقاء.. الصراصير ليسوا كثيرين.. دعونا نفرح إن الله رحيم.. لو أبدنا كل الصراصير فلن يحكمنا أحد.. سنكون المنتصرين.. وإلا فنحن نخاطر بالموت غرقا في بحيرة كيفو”!

ووصف الصراصير له دلالته الشعبية في العرف الاجتماعي؛ فالفرد الرواندي يقدّر الحليب وأكثر ما يكدّره عليه هو سقوط صرصار فيه، فكان يعمد إلى قتله حيثما وجد، كانت الحكومة الرواندية آنذاك تحرض الناس على مواصلة إبادة التوتسي، ورفعت عن الميليشيات الشعبية كل أشكال المتابعة القضائية. لقد صار الإنسان التوتسي أهون من الحشرة، فلم يكن القاتل يرى أنه قتل نفسًا بشرية لها نفس قداسة إنسانيته! راحت إذاعة RTLM تبث أسماء الشخصيات المستهدفة من أقلية التوتسي والأماكن التي يتواجدون بها، وكانت الإذاعة تحصل على تلك القوائم من الدوائر الحكومية.

كانت هذه الإذاعة تقوم بخداع الناس فتدلهم على بعض الكنائس ليختبئوا فيها من بطش الميليشيات، موهمة إياهم أن القتلة لن يتجرؤوا على أماكن العبادة، فيسرعون إليها وكان ذلك خطأ كبيرًا لأنها كانت تقدمهم لقمة سائغة للمناجل والهراوات والسكاكين والسيوف.

 

المصدر: هنا