إعلانات

وجهان لعلمنة واحدة... / د. محمد إسحاق الكنتي

أربعاء, 28/08/2019 - 09:17

كتب جميل منصور.. " التناقض بين الإسلاميين والعلمانيين تناقض حقيقي وغير مفتعل وإن كان انفتاح بعض الإسلاميين واعتدال بعض العلمانيين قرب الشقة في بعض الحالات وبعض البلدان." كان ذلك بمناسبة رفض المحامي محمد ولد أمين مناظرة ولد الوديعة ممثلا لجماعة الإخوان في موريتانيا، مطالبا بمستوى يراه أليق به، مثل ولد منصور، أو ولد الددو... ما يهمنا من التدوينة التقريظة هو تأكيدها على "التناقض بين الإسلاميين والعلمانيين..."، ومسارعتها إلى نفي "افتعاله"!! ومحاولة تفسير ما لا يمكن إنكاره من التقاء بينهما ب"انفتاح بعض الإسلاميين واعتدال بعض العلمانيين..."
ينسى ولد منصور أن إنكار المواقف، والتنكر للمبادئ لم يعد متاحا بالسهولة التي استفادوا منها كثيرا، حين كان التخلص من الوثائق (سيارة الجيب، وطرد المحكمة) كفيلا بإخفاء الأدلة. فمنذ أن أطلقت الجماعة حواراتها مع الدوائر الغربية القريبة من الأجهزة السرية، سارت حثيثا في اتجاه العلمنة الفكرية والسياسية. لقد أثمرت تلك الحوارات صفقة تخلت الجماعة بموجبها عن "إقامة الدولة الإسلامية، والدعوة لتطبيق الشريعة"، مقابل دخولهم المجالس التشريعية في مصر والأردن والمغرب نهاية الثمانينات. وأظهر سلوك منتخبيهم التزاما مطلقا بالقواعد الديمقراطية العلمانية؛ فلم يقدموا مشروع قانون، أو مساءلة، يمكن أن يستشف منها نفس إسلامي.
كان عصام العريان رئيس المكتب السياسي للجماعة، وأصغر عضو في مجلس الشعب المصري 1987، وخيرت الشاطر النائب الأول للمرشد مهندسا علمنة التنظيم؛ فقد أسس الشاطر موقع الاخوان ويب (بالانجليزية) لفتح حوارات مع مراكز الأبحاث ورجال الفكر الغربيين المهتمين بالإسلام السياسي. وحين دخل البرلمان المصري 80 نائبا من الاخوان في انتخابات 2005 كتب الشاطر مقاله الشهير "لا تخافوا منا!"، ونشر في صحيفة الغارديان لطمأنة الجهات الغربية حول توجهات الجماعة الجديدة. واحتل العريان مساحة واسعة في الاعلام بصفته الوجه "العلماني" للجماعة.
يظهر تاريخ المناظرات بين قادة الاخوان والمنافحين عن العلمانية تطور التنظيم الحثيث في اتجاه تبني العلمانية في الفكر والممارسة السياسية. فلعل أشهر المناظرات تلك التي دارت في معرض القاهرة للكتاب.. " بحضور حوالي 30 ألف شخص، جلس المفكر العلماني فرج فودة ومحمد أحمد خلف الله، في مواجهة مع الإسلاميين محمد الغزالي، ومحمد عمارة، ومحمد مأمون الهضيبي، في الثامن من يناير 1992، تحت لافتة مكتوب عليها "مصر بين الدولة الإسلامية والدولة العلمانية"... في هذه المناظرة كان التناقض واضحا بين الدولة الإسلامية والدولة العلمانية. وهي المناظرة التي صرح فيها مرشد الجماعة مأمون الهضيبي بأن الجماعة "تتعبد الله بأعمال التنظيم السري"، وربما شجع هذا القول أحد أفراد الجماعة على قتل فرج فودة بعد المناظرة.
صرح محمد الغزالي في تلك المناظرة بأن " المطلوب حكومة إسلامية"، بينما " دافع فرج فودة عن العلمانية، رافضاً الحكم بالشريعة الإسلامية." استمر هذا التناقض صريحا في المناظرات التي أجريت في الثمانينات حين كانت الحركة الاسلامية في طور ازدهارها القائم على شعار "لا شرقية ولا غربية".. " في أواخر الثمانينيات، عُقدت مناظرة في دار الحكمة وسط القاهرة، بعنوان "الإسلام والعلمانية"، أبطالها أستاذ الفلسفة فؤاد زكريا، والشيخ يوسف القرضاوي، والمفكر الإسلامي محمد الغزالي." واستمر صوت الإخوان عاليا في إعلان تناقض الإسلام مع العلمانية.." رفض يوسف القرضاوي العلمانية، وقال إنها مضادة للدين الإسلامي، لأن الشريعة هي التي تنظم بأحكامها الحياة، وتضع لها الضوابط، سواء في ما يتعلق بالأحوال الشخصية أو المجتمع، أو الدولة، وبهذا تناصب العلمانية العداء للدين."(أصدر القرضاوي وقائع هذه المناظرة في كتاب: الإسلام والعلمانية وجها لوجه، دون أن يذكر آراء مناظره!!!). وقد ندد فؤاد زكريا بهذا التصرف.. في مقابلة مع صحيفة "الشرق الأوسط"، في فبراير 2010: "أنا أعتقد أن ما كتبه الشيخ يوسف القرضاوي عن هذه المناظرة كان به تشويه كبير لما حدث فيها، لكي يظهر نفسه ويعلن أنه هو المنتصر في هذه المناظرة، ويظهرني على أنني كنت متهافتاً. وما حدث في تلك المناظرة كان عكس ما تم الترويج له تماماً، أنا أعتقد أنني استطعت الدفاع عن العلمانية والتنوير في تلك المناظرة بطريقة سببت الحرج الشديد لمناظري الشيخين الغزالي والقرضاوي".

غير أن المناظرات التالية ستسير في اتجاه جسر الهوة بين الاخوان والعلمانية؛ فقد اختفت مفردات "الدولة الإسلامية، والحزب الإسلامي"، ولم يعد تطبيق الشريعة مطلبا للجماعة! بل إن يوسف القرضاوي ربطه، في إحدى حلقات برنامج الشريعة والحياة، بتحقيق التوظيف الشامل في المجتمع مدعيا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطبق الحدود "حتى شغل الناس كلها"!!! وفي آخر تلك المناظرات الشهيرة في رئاسة مرسي انتدب الإخوان سلفيا لمناظرة رئيس مركز بن خلدون.. " بدأ سعد الدين إبراهيم الحديث بالتأكيد أن الدعوة للمدنية (العلمانية) لا تعني محاربة الشريعة الإسلامية، مضيفاً: "أقول المدنية وليست الإسلامية، لأن أول وثيقة في التاريخ آمنت بالتعددية الحقيقية، كانت صحيفة المدينة التي وضعها الرسول بينه وبين 13 جماعة غير إسلامية... موضحاً أن الإسلام لا يناقض الديمقراطية."
يظهر جليا أن الحجج التي يقدمها سعد الدين باسم العلمانية هي نفسها التي يتبناها منظرو تنظيم الاخوان، خاصة الترابي والغنوشي. فقد قرأوا وثيقة المدينة بنفس المنهج العلماني الذي قرأها به سعد الدين إبراهيم محاولين إيهام المسلمين أن تلك الوثيقة تؤسس لتعايش مدني (= علماني) بين المسلمين و"13 جماعة غير مسلمة..." في هذه المناظرة لم يكن التناقض بين الإخوان والعلمانية، وإنما بين سلفية إخوانية والتنظيم في حلته الجديدة. لذلك سيبدو سلفي الإخوان مرنا إلى أبعد الحدود... " قال عبد المنعم الشحات إن الإسلام هو الأساس، والصورة الحالية من الديمقراطية منقول كثير منها عن الإسلام، متسائلاً: "لماذا تركنا آليات الشورى ونتمسك بآليات الديمقراطية فقط؟ العقل الإسلامي السلفي هو الذي أدى للديمقراطية".
استقرت هذه المقاربة العلمانية وترسخت في ظل سعي الجماعة إلى استغلال فتنة الربيع للوصول للسلطة بمباركة وتسهيل من الدوائر الغربية. في هذا السياق يندرج مقال محمد بن محمد المختار الشنقيطي الذي نشره في موقع راشد الغنوشي بعنوان: "في التقارب الإسلامي العلماني، الغنوشي والمرزوقي نموذجا"، بتاريخ الاثنين 25 أكتوبر 2010، وأعاد موقع الأخبار الألكتروني نشره يوم 04/11/2011، تحت عنوان: "هل تصلح الثورات العربية بين الإسلاميين والعلمانيين." وقد خلص الشنقيطي إلى أن اختلاف الإسلاميين والعلمانيين عرضي "...لأنهم يسعون في الغالب إلى غايات دنيوية، لكنهم يعبرون عنها بلغات مختلفة." فما الذي دعا فرع التنظيم عندنا إلى افتعال معركة مع "العلمانيين" يخوضها بكتيبة مشاة سيئة الاعداد والعتاد!!! لعل تفسير ذلك يكمن في الأزمة الفكرية والتنظيمية والمالية التي يعانيها حزب تواصل؛ فعلى المستوى الفكري ظل فرع التنظيم عندنا عالة على الغنوشي والترابي ولم يعد المسلمون البسطاء وهم غالبية شعبية تواصل يرون الغنوشي صاحب رؤية إسلامية بعد تصريحاته حول حرية الناس في الصلاة وتركها، والسكر والصحو، والحجاب والسفور، ودفاعه المستميت عن السبسي الذي "تركنا على المحجة البيضاء"!!! أما الترابي فقد خرج من دائرة الضوء منذ عقود، وغيبه المنون ولا يعرف عنه العامة إلا أن له آراء كفره بها بعض علماء السودان...
أما على المستوى التنظيمي فقد بدأ تفكك الحزب منذ وصل الصراع القبلي والجهوي فيه أوجه بإقصاء ولد منصور وجماعة "أهل القبلة" من القيادة واستلام جماعة "أهل الشرق" زمام الأمور. لقد جرت محاولة مستميتة لإخراج عملية التصفية في ثوب ديمقراطي قشيب غير أن تصفية مراكز قوى ولد منصور من المكتب التنفيذي أسقطت ورقة التوت. وجاءت الضربة القاضية بتجفيف منابع تمويل التنظيم المتمثلة في "الهيئات الخيرية" التي تبيض التمويلات الخارجية للتنظيم والحزب. عندها بدأت عملية "الهروب الكبير" لقيادات الحزب التي ملت ممارسة "التدين المغشوش" فجاء ذووا النشب والنسب منها يطلبون الرشد عندنا في موالاة طالما سلقوها بألسنة حداد...
واليوم يحاول الحزب الجريح إعادة الاستثمار في الإسلام من خلال انتداب صحفي حقوقي لرفع "راية الإسلام" في وجه العلمانية!!! غير أن العلمانيين أفشلوا مناورة الإخوان حين رفضوا مناظرة الوديعة... غيرة على الإسلام.